أقلام وأراء

إميل أمين: روسيا أم الصين من يهدّد أميركا أكثر؟

إميل أمين 4-10-2025: روسيا أم الصين من يهدّد أميركا أكثر؟

من هذه اللحظةِ فصاعدًا، المهمّة الوحيدة لوزارة الحرب المُستعادة حديثًا هي: خوض الحرب، والاستعداد لها، والتحضير للانتصار، بلا هَوادة ولا تهاون في هذا المسعى، ليس لأننا نريد الحرب، فلا أحد هنا يريدها، بل لأننا نحب السلام. نحب السلام من أجل مواطنينا. إنهم يستحقون السلام، وينتظرون منا، بحق، أن نُحَقِّقَه.

مهمتنا الأولى، بالطبع، هي أن نكون أقوياء لنمنع الحرب من الأساس. يتحدث الرئيس عن ذلك طوال الوقت. يُسمَّى ذلك السلام بالقوة. وكما يُعلّمنا التاريخ، فإن من يستحق السلام حقًّا هم من يخوضون الحرب دفاعًا عنه.

بهذه العبارات والتي تبدو أقرب ما يكون إلى بيان حرب كونيّة، خاطب وزير الحرب الأميركي بيت هيغسيث، قرابة ثمانمائة جنرال وأدميرال من كبار الرُّتَب الأميركية، في قاعدة مشاة البحريّة في مدينة كوانتيكو بولاية فيرجينيا الأميركية، مُسْتَحِثًّا الهِمَمَ، وبصيغةٍ يفهم منها القارئُ أن البلاد قاب قوسين أو أدنى من الصدام القادم لا محالةَ.

السؤال الصعب: “هل عبارات هيغسيث نوع من التنبؤات التي تسعى لتحقيق ذاتها بذاتها؟ أي هل الرجل يتجهز للحرب الأميركية القادمة عَمَّا قريب؟”

الجواب يأخذنا عنوةً في طريق ما تَسَرَّبَ من أنباء قبل بضعة أشهر عن كشف الفتى المعجزة إيلون ماسك لبعض وثائق البنتاغون السرّيّة الخاصّة بالحرب الأميركية القادمة، وإن كان قد حَدَّد الدولةَ التي ستجري معها المعركة بالاسم، وهي الصين.

حديث ماسك، ربّما أكَّد ما جرى تناوله من قَبْلُ عن بعض كبار الجنرالات الأميركيين بشان الصدام مع الصين في العام 2027، وأن الخطط العسكرية الأميركية تُوضَع على أساس هذا التقدير العسكري بالفعل، سواء كان سببُ الصدام محاولات الصين ضَمَّ جزيرة تايوان بالقوة العسكريّة، أو أزمات بحر الصين الجنوبيّ وربّما إشكاليات الهيمنة والتمدد في منطقة الإندوباسيفيك.

والشاهد أنّ الذين قُدِّرَ لهم الاطّلاع على إستراتيجية الأمن القوميّ الأميركيّ الصادرة في أكتوبر/ تشرين أوّل عام 2022، وهي الإستراتيجية الوحيدة التي وُضِعَتْ في زمن الرئيس بايدن، يدرك أن كافة التقديرات كانت تشير بالفعل إلى أنّ الصين هي العدوّ الإستراتيجيّ الأكبر والمهدد الأكثر خطورة على وضعيّة الولايات المتحدة، كقطب منفرد بمُقَدَّرات العالم.

كانت تلك القراءةُ مثيرةً للكثيرين داخل وخارج أميركا، لا سِيَّما أنّها جاءت بعد نحو ثمانية أشهر من أكبر وأخطر عملٍ عسكريّ عرفته أوروبّا، منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية، أي العمليّة العسكريّة الروسيّة في الأراضي الأوكرانية.

في هذا الصدد، كانت هناك حالة من الاندهاش والتساؤلات عن تبَدُّل الأدوار، وتغيير تراتبّية التهديد، من روسيا التي استخدمت بالفعل أدواتها العسكرية على الأرض، وكيف أنها تراجعت وراء الصين التي تكتفي بتفعيل مقدراتها المالية والاقتصاديّة كأدوات إمبراطورية في الوقت الراهن، ضمن إطار صراع القطبية.

لاحقًا ومع احتدام وطيس المعركة الانتخابية الرئاسية الأميركية عام 2024، بدأ المرشّح الجمهوري دونالد ترمب في تقديم الوعود، وفي مُقَدِّمها أنه سيوقف الحرب الروسية الأوكرانية، وذلك في اليوم الأوّل له في البيت الأبيض، ووَجَّهَ سهامَ نقدِه الحادَّة للصين التّنّين القائم والقادم، ماليًّا وعسكريًّا.

غير أنه وبعد ثمانية أشهر من ولايته الثانية، وعقب لقاءٍ دَعَائيٍّ واسع في آلاسكا، بدأت الوعود تتلاشى والأمال تتضاءل، بل إن مواقف ترمب نفسها من موسكو تغيرت على نحو مثير في الأيام التي أعقبت لقاء أقصى القطب الشمالي.

دفعةً واحدة، صحا العالمُ على تغَيُّرِ موقف ترمب العسكري من أوكرانيا، ذلك أنّه بعدما كان رافضًا لتزويدها بمُعِدَّاتٍ عسكريّة تُمَكِّنها من السير في طريق الحرب، ها هو يستعدّ لشحنات تضعف من موقف موسكو، وإن كانت لا تصيبها في الأعماق مثل صواريخ توما هوك التي رفض تزويد كييف بها، خوفًا من ردّات الفعل الروسيّة لا في الداخل الأوكرانيّ فحسب، بل في القلب الأوروبيّ برُمَّتِه.

الردّ الروسي بدوره لم يتأخّرْ كثيرًا، وها هو يحدث قلقًا بالغًا في العديد من البقاع والأصقاع الأوروبية، حيث الطائرات المسيرة تزعج الدنمارك والمانيا، وغيرها من دول البلطيق، فيما منشورات مثيرة تعمُّ الدول الأوروبية من عينة تخزين المزيد من الأطعمة والاحتفاظ بالكثير من العملات النقديّة، وجميعها تجعل المرء يتساءل: من يتهدَّد أميركا وأوروبا اليوم أكثر من الثاني الصين أم روسيا؟

المتابع المحقق والمدقق لمآلات العسكرية الصينية، يدرك أن موجةً جديدة من عمليات التطهير في القيادة العليا للجيش الصينيّ، جيش التحرير الشعبيّ، قد جرتْ بها المقادير منذ انعقاد المؤتمر الوطنيّ العشرين للحزب الشيوعيّ في أكتوبر/ تشرين أوّل 2022، فمنذ ذلك التاريخ اختفى أكثر من 20 ضابطًا رفيع المستوى من جميع فروع الجيش كما أبلغ عن غياب أربعة جنرالات.

لكن ومع ذلك الذين تابعوا العرضَ العسكريَّ الصينيَّ الأخير، وَقَرَ لديهم أنَّ الصين قد باتت قوةً مُسَلَّحة غير اعتياديّة، سواء على صعيد القوات التقليدية أو النووية، بل إنّ أسلحة جديدة من الليزر، تهدّد المحطات الفضائية والصواريخ المنصوبة خارج الأرض باتت في ملكيّة الصين، ما يعني أنّ إستراتيجيّة بايدن كانت صحيحةً وأن الصين وليس روسيا هي المهدِّد الأكبر.

لكن رأيًا آخر لـ”كولين كولياري” البروفيسور في جامعة جورج واشنطن الأميركية، وعبر مقال مطول في مجلة الفورين بوليسي الشهيرة، يقطع بأن روسيا وليس الصين هي التهديد الإستراتيجي الأعظم لاميركا.. السؤال لماذا؟

ترى كولياري أن بوتين هو العدوّ المعلن للولايات المتحدة والذي استخدم كلّ أدوات السلطة لتقويض الأمن القومي الأميركي وتهديد الوجود الماديّ للشعب الأميركي.

نعم الصين في تقدير كولياري ليست مثالاً يُحتَذَى به في الشؤون العالمية، ويجب محاسبتها. لكن توجيه أغلبيّة الموارد الأميركية نحو بكين يغفل أنشطة عضو في مجال الأمن التابع للامم المتحدة – روسيا بالطبع – يهدد قادته وقنوات دعايته الإعلامية بشكل روتيني بشَنِّ حرب نووية ضد الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، والذي غزا ديكتاتوره أراضي دولة أخرى معترَف بها دوليًّا وضمّها احتياليًّا متى شاء، والذي ينفذ جيشُه ضربات صاروخيّة وطائرات مُسَيَّرة مُخطَّط لها على أهدافٍ مدنيَّة يوميًّا.

هل القوة النووية إذن هي ما يجعل روسيا المهدد الأكبر لأميركا؟

هذا القول مردودٌ عليه، لا سِيَّما أنَّ الصين تُخَطِّط لامتلاك ألف رأس نوويّ بحلول عام 2030، أي خلال خمس سنوات، وحال إضافة قوّتِها الاقتصاديّة وترسانتها التقليدية إلى قوتها النووية، تعود المعادلة من جديد لتضحي الصين المُهَدّد الأكبر.

ثم يبقى هناك أمرٌ آخر لم يؤخذ في الحسبان، وهو السرعة التي تقوم بها الصين في سياق عسكرة الفضاء، وعمّا قليل سوف تسبق روسيا وتتعادل بل ربّما تتجاوز الولايات المتحدة المنشغلة في صراعات داخلية قد تعيق مساراتها القطبية.

أمّا الخوف الأكبر فهو من الشراكة الروسية – الصينية في مواجهة القوة الإمبراطوريّة الأميركيّة، ومن هنا يتفهم المرء حديث الميزانية التريليونية للقوات المسلحة الأميركية التي تحَدَّثَ بها الرئيس ترمب في ليلة الجنرالات الأخيرة.

أيّ مستقبلٍ ينتظر عالمنا في ظلِّ عسكرة مستمرة ومستقرة وسلام يتوارى يومًا تلوَ الآخر؟

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى