د. عبد المنعم سعيد: إشكاليات الانتخابات الأميركية

د. عبد المنعم سعيد 15-10-2024: إشكاليات الانتخابات الأميركية
اقتربت مواعيد الانتخابات الموسمية الأميركية التي تشمل الرئاسية وأعضاء مجلس النواب وثلث أعضاء مجلس الشيوخ وحكام الولايات. ورغم أنها تُحسم في يوم الثلاثاء الأول من شهر تشرين الثاني، وهو الخامس منه هذه المرة، فإن المواعيد تخص التصويت بالبريد، وتخص المصوتين من الخارج، وبعد ذلك الذين يذهبون إلى الصندوق مباشرة ويصوتون بأنفسهم.
الولايات تختلف في تنظيم العملية الانتخابية، ومنهم من يطلب شهادة أو هوية ثبوتية لإتاحة التصويت، وفي ولايات أخرى ليس هذا ضرورياً. ومنذ بدأت متابعة الانتخابات الأميركية أي قبل خمسة وستين عاماً تقريباً إبان انتخاب الرئيس جون كيندي؛ ومع دراسة التاريخ الأميركي فإن الدولة الأميركية عرفت عدداً من الإشكاليات التي تكاد تكون دائمة منذ ميلادها.
ولعل أكثرها عمقاً قضية «العبودية» التي بدأت منذ نشأة الدولة وانتخاباتها الأولية، ومعها وضع الدستور الكونفدرالي ثم الفيدرالي وحتى الحرب الأهلية (1860 -1865) وما بعدها. السؤال الذي كان على المؤسسين الإجابة عنه هو عما إذا كان العبد ينطبق عليه قواعد وقوانين العمل باعتباره عاملاً يساهم في العملية الإنتاجية؛ أو أنه من هذه المخلوقات التي يستعين بها الإنسان مثل الحصان والبغل والجاموس. أغلبية المؤسسين الأوائل كانوا من مُلّاك العبيد، وكان الجنوبيون منهم ينتمون للتقدير الثاني، أما الشماليون فرغم أن جون آدمز الرئيس الثاني كان يؤمن بأنهم من بنى البشر ويجب معاملتهم بنفس طريقة التعامل مع الأخوّة الإنسانية، فإن آخرين من بينهم الرئيس الثالث توماس جيفرسون «الليبرالي» على سبيل المثال لم يكن مقدراً لهذه المساواة.
القضية ظلت مستحكمة، والنخبة السياسية عاجزة عن حلها، واستعصت عندما بدأت ولايات جديدة في التشكيل، وكان منها من يريد العبيد بالمعنى الأول فيما ولايات أخرى أخذت بتعريفات أخرى. كانت الإشكالية في كل الأحوال تتعلق بالضرائب سواء على مستوى الولايات أو المستوى الفيدرالي؛ وعما إذا كان العبد ملكية ومن ثم تُفرض عليه ضريبة مثل العقارات أو المبيعات، أو أنه إنسان ومن ثم لا تُفرض عليه ضرائب باعتباره إنساناً ليس عليه حق رقبة.
العبودية أخذت إشكالياتها أشكالاً متعددة، وبعد الحرب الأهلية وعتق العبيد، وحتى إعطائهم حقوق الترشح والتصويت والعضوية في المؤسسات التشريعية، فإن قوانين «جيم كرو» القائمة على مبدأ «متساوون ولكنْ مختلفون» فسرتها الولايات بأشكال مختلفة، فقد كانت هناك أسباب دائمة للاستبعاد على أساس الاختلاف، خاصةً مع التمايز الطبقي وانتماء العبيد للطبقات الفقيرة حيث لا قدرة تعليمية؛ وبالطبع لا قدرة على دفع تكلفة العملية الانتخابية.
بالطبع تغيرت الأوضاع خاصة مع القوانين المدنية خلال الستينيات من القرن الماضي، وفى القرن الحالي تم انتخاب أول رئيس أسود باراك أوباما؛ وفي الوقت الحالي فإن الليبرالية الأميركية سوف تُختبر في الانتخابات، حيث أحد المرشحين سيدة وسمراء لأصول إفريقية وهندية وهي كامالا هاريس. ولكن فكرة «الأبيض» في مواجهة «الملوّن» تظل قائمة في الولايات الحمراء حيث يكثر الجمهوريون، خاصة في طبعتهم الجديدة متجسدة في المرشح الآخر دونالد ترامب.
الإشكالية الرئيسية الأخرى لدى الولايات المتحدة والتي تحتدم ساعة الانتخابات الرئاسية هي علاقة الولايات المتحدة مع العالم، وهل لها رسالة عالمية فيه تنبع من جوهرها القائم على الهجرات الكبرى والمستمرة والتي كانت في البداية من الأوروبيين البيض، والآن فإن موجاتها تأتي من الجنوب. في البداية كانت الإشكالية تقوم على التمايز ما بين البيض البروتستانت والكاثوليك؛ ولكن مع القرن العشرين باتت أقليات مثل الإيطاليين والإيرلنديين يُنظر لها من علٍ، باعتبار الأولى من العصابات والثانية من السكارى.
اليوم فإن المسألة تأخذ شكلاً آخر منذ اعتبر الرئيس الخامس جيمس مونرو أن العالم الغربي عرف القارتين الأميركيتين الشمالية والجنوبية، وأنه يوجد لدى الولايات المتحدة حق إلهي في النفاذ لكلتيهما، فإن فكرة الخروج إلى العالم ونشر الفكرة «الأميركية» أصبحت مسيرة انتخابياً على من يريد أن يجعل أميركا «أولاً»، أو أنه بحكم الأخلاق الأميركية فإن العالم كله ملكها. بعد الحرب العالمية الأولى وجد الرئيس وودرو ويلسون أنه بات من حقوق الولايات المتحدة قيادة العالم؛ وعندما انتهت رئاسته لم تكن أميركا مستعدة لكي تدخل عصبة الأمم التي شعوبها بعيدة ومتخلفة.
قامت سياسات العزلة الأميركية، ولكن نشوب الحرب الثانية دفع أميركا دفعاً نحو «العولمة» مع نهاية القرن العشرين. المدهش أنه مع اقتراب نهاية الربع الأول من القرن الواحد والعشرين فإن دونالد ترامب يرى في العالم خطراً على أميركا ويريد غزوها، ويخطف صناعاتها، ويسرق ابتكاراتها وتفوقها التكنولوجي، ولا مفر من فرض الرسوم والجمارك على ما سوف يأتي من العالم.