شؤون فلسطينية

إبراهيم نوار يكتب – فرصة جديدة لتسوية القضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين؟

إبراهيم نوار  *- 11/11/2020

تلوح في الأفق فرصة تاريخية جديدة للتقدم على طريق حل الدولتين للقضية الفلسطينية. هذه الفرصة صنعتها ظروف تاريخية، ولم يصنعها لا الفلسطينيون ولا العرب. كثيرون في العالم يعتقدون أن صناع الفرص هم الأكثر جدارة بالاستفادة منها، أما غيرهم فإن مهاراتهم تتجلى في إضاعة الفرص وليس في صنعها. من وجهة نظر متفائلة، فإن فوز جوزيف بايدن، يمنح شعوب المنطقة مساحة للتعاون في ظل سلام، يحترم سيادتها واستقلال إرادتها، بعد فترة مضطربة سيطرت عليها نزعة عسكرية عدوانية، تسعى إلى إحلال سلام القاهر المنتصر، والاستئساد على مصائر الشعوب المغلوبة على أمرها بكل الطرق.

لكن فوز بايدن لا يعني أبدا أن المصالح الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط تغيرت، ولكنه يعني أن ترتيب الأولويات وأساليب وأدوات تحقيق هذه المصالح يمكن أن يتغير. الدافع وراء هذا الإعتقاد هو أن الديمقراطيين يتجهون إلى اعتماد سياسة خارجية جديدة، تقوم على التوليف بين المصالح القومية وقيم النظام الديمقراطي، بما يوفر للولايات المتحدة مصداقية الادعاء بقيادة معسكر الدول الصناعية الغربية. بغير ذلك فإن هذا الادعاء يفقد أي أساس أخلاقي. وعلى التوازي فإن عواصم الشرق الأوسط بدأت من الآن إعادة ترتيب أوراقها، حتى تصبح في وضع أفضل مع الإدارة الجديدة، خصوصا في سجلات مثل حقوق الإنسان والمرأة والحريات الدينية والتعامل مع الأقليات العرقية.

ونستطيع بناء على تحليل الخطاب السياسي للمرشح الرئاسي الفائز، ونائبته السيناتور كامالا هاريس، ترتيب أولويات السياسة الخارجية في الشرق الأوسط على النحو التالي: أولا التأكيد على أمن إسرائيل وتفوقها العسكري، كأولوية ثابتة مرتبطة بأمن الشرق الأوسط ككل. ثانيا، العودة المشروطة للتفاوض بشأن الاتفاق النووي الإيراني، بتقديم حوافز تشجع إيران على الالتزام بنصوص الاتفاق، مع اتخاذ سياسة معتدلة تجاهها، وتخفيف العقوبات المفروضة عليها، والإبحار بعيدا عن سياسة (الضغوط القصوى) التي تتبناها الإدارة الحالية منذ ثلاثة أعوام. ثالثا، العمل على تشجيع استئناف المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين، من أجل التوصل إلى تسوية سياسية بينهما على أساس حل يسمح بقيام دولة فلسطينية تعيش في سلام مع إسرائيل. رابعا، تشجيع الدول العربية كافة على تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وإقامة سلام عربي – إسرائيلي غير مشروط بتسوية القضية الفلسطينية. خامسا، المحافظة على التحالف الدولي ضد الإرهاب والتطرف المسلح في المنطقة. سادسا، إعادة تقييم العلاقات الأمريكية – العربية من نافذة مدى الالتزام بالقيم الديمقراطية في الحكم، وحقوق الإنسان، والحريات الدينية وحقوق المرأة.

وبناء على هذه الأولويات، وهي جميعا موصولة بخطاب أوباما التاريخي في جامعة القاهرة عام 2009، ويلتقي البعض منها مع سياسات الرئيس الحالي، فإن وزير الخارجية الجديد (من المرجح حتى الآن أن تتولى المنصب السفيرة سوزان رايس مستشار الأمن القومي للرئيس السابق باراك أوباما) إلى جانب نائبة الرئيس المنتخب السيناتور كامالا هاريس مع وزير الدفاع الجديد (المرشح الأقوى حتى الآن هي ميشيل فوردنوي، وكيلة وزارة الدفاع لشؤون السياسات في عهد الرئيس السابق أوباما) سيلعبون دورا كبيرا في إعادة صياغة السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط. ومن المفيد أن نذكر أن ما يقرب من ثلاثة أرباع اليهود الأمريكيين صوتوا لصالح بايدن، في حين كان ثلثي الناخبين في إسرائيل يفضلون ترامب. هذا التناقض في التفضيلات يعكس حقيقة مهمة، وهي انعدام مصداقية ادعاء إسرائيل بأنها صاحبة الولاية السياسية على كل يهود العالم؛ وهو ما يسهل إخضاع سياستها لعملية إعادة تقييم في واشنطن بدون حساسية.

“عامل الزمن ينحاز إلى جانب الطرف الأكثر قدرة على إقامة الحقائق على الأرض وتثبيتها، وتوفير مقومات الحياة لاستمرارها “.

لم تَخْلُ علاقات إسرائيل بالولايات المتحدة من خلافات ومشاحنات، سواء مع الجمهوريين أو الديمقراطيين، من أهمها الخلاف بين إسحق شامير وجورج بوش (الأب) عام 1992 الذي هدد فيه بوش بوقف المساعدات ما لم تلتزم إسرائيل بتجميد الاستيطان، ورد عليه شامير بإعلان رفض المساعدات، إذا كان الثمن هو وقف الاستيطان، والخلاف بين نتنياهو وأوباما بشأن الاتفاق النووي الإيراني، الذي حاول أوباما إصلاحه باتفاق طويل المدى، وقعه الطرفان عام 2016 تضمن تقديم مساعدات لتمويل مشتريات عسكرية لإسرائيل من الولايات المتحدة بقيمة 38 مليار دولار على مدى 10 سنوات، تبدأ من عام 2018 وتنتهي عام 2027 بواقع 3.8 مليار دولار سنويا. وتستعد إسرائيل من الآن لتقديم حزمة من طلبات المساعدات العسكرية إلى الإدارة الجديدة، تتضمن شراء المزيد من طائرات (إف – 35) و(في – 22) والنسخة الجديدة الأكثر تطورا من المقاتلة (إف – 15) وأسلحة أخرى تم إدراجها على قائمة المفاوضات مع الإدارة الحالية، خلال الزيارة التي قام بها وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس في نهاية الشهر الماضي، تمهيدا لتوقيع اتفاق تمويل طويل الأجل يلبي احتياجات إسرائيل العسكرية. وتعمل الولايات المتحدة دائما على أن يكون ضمانها لأمن إسرائيل وتفوقها النوعي العسكري سياسة واضحة لا تشوبها شائبة. ومن المتوقع أن تزيد أهمية إسرائيل للولايات المتحدة خلال السنوات والعقود المقبلة، مع تخفيف الوجود العسكري الأمريكي في سوريا والعراق وأفغانستان، والإبقاء على الحد الأدنى الضروري من القوات في الخليج والبحر الأحمر لحماية ممرات التجارة الدولية، مع الإبقاء على القوات المستأجرة في بلدان مثل السعودية والبحرين. هذا الوضع الجديد يحتاج إلى قوة حليفة، وليس مجرد قوة صديقة، تملأ الفراغ العسكري الذي ستتركه وراءها الولايات المتحدة، في مواجهة محاولات التمدد العسكري الروسي والإيراني في المنطقة. ولا يوجد في العالم من هو أفضل من إسرائيل للقيام بهذا الدور من وجهة النظر الأمريكية. وقد أثبتت السياسة الخارجية الإسرائيلية في المنطقة قدرة فائقة في الأشهر الأخيرة على جذب دول عربية رئيسية من (الحظيرة الأمريكية) إلى (الحظيرة الإسرائيلية) مؤكدة بذلك قدرتها على قيادة المنطقة في إطار استراتيجية واسعة لضمان مصالح التحالف الغربي ككل بقيادة الولايات المتحدة.

ما يزال الخطاب السياسي للديمقراطيين تجاه القضية الفلسطينية حتى الآن يقوم على أساس البيان الوارد في خطاب أوباما التاريخي في جامعة القاهرة، الذي قال فيه: «إن السبيل الوحيد إلي طموحات الطرفين يتحقق من خلال دولتين، يستطيع فيهما الإسرائيليون والفلسطينيون أن يعيشوا في أمن وسلام». وقد تأكد ذلك خلال الحملة الانتخابية للمرشح الفائز جو بايدن ونائبته كامالا هاريس، التي تتمتع بعلاقات طيبة مع الفلسطينيين، مع تأييدها القوى لإسرائيل، وكذلك المرشحة لمنصب وزير الخارجية سوزان رايس. ويمكن القول بأن الإدارة المقبلة في البيت الأبيض لن تقبل بإسقاط الحاجة إلى سلام إسرائيلي – فلسطيني أو تأجيله، في مقابل التقدم على طريق إقامة سلام عربي – إسرائيلي، وذلك حتى لا يجد الفلسطينيون أنفسهم في حال يأس كامل. وطبقا لتصريحات هاريس، فإنه من الضروري تشجيع الفلسطينيين على استئناف المفاوضات مع الإسرائيليين، من خلال تقديم عدد من الحوافز ذكرت منها: إعادة فتح القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية، وإعادة فتح مقر البعثة الفلسطينية في واشنطن، واستئناف دور الولايات المتحدة في دعم وكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين، والعمل على تخفيف الأزمة المالية التي تعاني منها السلطة الوطنية الفلسطينية. ومع ذلك فإن الالتزام بحل الدولتين سوف يصطدم بعدد من العقبات، التي تمثل حقائق على الأرض، من أهمها المستوطنات في الضفة الغربية، ووضع القدس كعاصمة لإسرائيل، وطبيعة الحقوق السياسية التي يتمتع بها الفلسطينيون كشعب وكأفراد، وحقوق المستوطنين السياسية، في الأماكن التي قد تؤول لسيادة السلطة الوطنية الفلسطينية.

قبل نهاية حكم الرئيس الأمريكي باراك أوباما، امتنعت الولايات المتحدة عن استخدام حق الفيتو في مجلس الأمن ضد قرار يعتبر المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية غير قانونية، وعقبة في طريق تحقيق السلام. وقد أثار هذا الموقف حالة من الاستياء الشديد داخل اسرائيل، لأنه يعني ضمنيا معارضة الولايات المتحدة للتوسع الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية. وزاد من حالة الاستياء ان هذا الموقف جاء في العام التالي لتوقيع الاتفاق النووي بين القوى العالمية الرئيسية وإيران، رغم معارضة إسرائيل؛ فكأنما وجهت إدارة أوباما ضربتين للسياسة الإسرائيلية قبل انتهاء المدة الأخيرة لحكمه، وهو ما يفسر موقف إسرائيل المعادي له. وقد تضمنت سياسة الرئيس الحالي ترامب قرارات بنقض سياسات أوباما، حيث انسحب من الاتفاق النووي عام 2018، ثم أعلن في نوفمبر 2019 أن المستوطنات لا تتعارض مع القانون الدولي، وليست عقبة في طريق السلام. ولا يبدو في الأفق أي احتمال عملي لتفكيك وإزالة المستوطنات الإسرائيلية الرسمية في الضفة الغربية، ضمن اتفاق سلام مع الفلسطينيين، على العكس مما حدث من تفكيك وإزالة المستوطنات الإسرائيلية في سيناء، التي تمت طبقا لاتفاقات كامب ديفيد ومنها مستوطنة (ياميت) بالقرب من رفح المصرية.

من نافلة القول هنا أن نؤكد أن الولايات المتحدة لن تكون أكثر حرصا على حقوق الفلسطينيين من الفلسطينيين أنفسهم. ولذلك فإن الفلسطينيين في حاجة ماسة لبلورة استراتيجية فلسطينية للسلام مع إسرائيل، تكون عملية ومقبولة ومتوافقة مع التأييد الدولي، الذي تحظى به القضية الفلسطينية حاليا من جانب القوى الرئيسية العالمية، مثل الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين، إلى جانب الإدارة الأمريكية الجديدة التي توفر نافذة استثنائية حاليا، بعد الخلل الشديد الذي أحدثته موجة التطبيع الأخيرة، ومن قبلها صفقة ترامب التي كان شعارها «السلام مقابل الرخاء» وانتهت فعلا إلى صيغة منطوقها «التطبيع مقابل السلاح» على حساب حلم إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، وقادرة على العيش في سلام مع إسرائيل. وإذا كان فوز بايدن سيفتح نافذة استثنائية للسلام بين الفلسطينيين وإسرائيل، فإن الفلسطينيين لن يتمكنوا من اقتناص هذه الفرصة التاريخية والإستفادة منها، ما لم يواجهوا أنفسهم بشجاعة، وعلى أساس حسابات عملية، تأخذ في اعتبارها أن عامل الزمن ينحاز إلى جانب الطرف الأكثر قدرة على إقامة الحقائق على الأرض وتثبيتها، وتوفير مقومات الحياة لاستمرارها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى