أقلام وأراء

إبراهيم نوار يكتب – عصر «السلام الإسرائيلي» و«الحرب الباردة الإقليمية» المقبلة

إبراهيم نوار *- 23/9/2020

منذ 40 عاما تابعت عن قرب مفاوضات تطبيع العلاقات بين مصر وإسرائيل، وتناولت الموضوع في مقالات ودراسات، نشرت في دوريات عربية متخصصة مثل «السياسة الدولية» المصرية، و»شؤون فلسطينية» و»شؤون عربية» ولاحظت وقتها أن الخطاب السياسي للتطبيع، صدر مترافقا مع التبشير بالسلام والاستقرار والرخاء. والآن وبعد أكثر من أربعين عاما نلاحظ الخطاب السياسي للتطبيع الجديد يحمل البصمة الوراثية نفسها التي رافقت خطاب التطبيع المصري – الإسرائيلي. وتتلخص هذه البصمة الوراثية السياسية في الكلمات الثلاث: السلام والاستقرار والرخاء، وهي الكلمات المفتاحية في الخطب التي ألقاها الرئيس الأمريكي، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، ووزيرا خارجية كل من دولة الإمارات والبحرين، في حفل الزفاف الذي أقيم في واشنطن، وعَقَدَت فيه إسرائيل على دولتين عربيتين مرة واحدة.

هذا التكرار للبصمة الوراثية السياسية، يحمل أحد معنيين، كل منهما ينفي الآخر. الأول هو أن اتفاقيات التطبيع السابقة حققت أهدافها، وأن الجديدة ما هي إلا استمرار لذلك النجاح. وهذا معنى تنفيه حقيقة أن إسرائيل تنتقد اتفاقيات التطبيع السابقة، وتتهمها بأنها أدت فقط إلى «سلام بارد» يقتصر على تمثيل دبلوماسي وسفارات محاصرة لا تستطيع التنفس، ومن ثم فإن المعنى الثاني مضمونه، أن إسرائيل فشلت في المرة الأولى، وأنها تعمل هذه المرة على ضمان تحقيق تلك المكاسب. فهل توفر اتفاقيات التطبيع الجديدة الفرصة لتحقيق تلك الشعارات للمنطقة ككل؟

ارتكز التطبيع الأول على مبدأ الأرض مقابل السلام، وأن التطبيع هو ثمن الانسحاب. كما ارتكز على إقامة علاقات ثنائية، ولم تكن إسرائيل في ذلك الوقت، رغم تفوقها العسكري، في وضع يسمح لها بالمنافسة على قيادة الإقليم. أما الصيغة الجديدة للتطبيع فإنها تقوم على مبدأ نتنياهو «السلام مقابل السلام» وتتجاوز حدود العلاقات الثنائية، وتتوج عقودا من التقدم الإسرائيلي المادي والمعنوي، مقابل انكسارات عربية متكررة، وهو ما تأمل من خلاله إسرائيل في أن تتولى قيادة المنطقة. فوق كل ذلك، فإن التطبيع الجديد لا ينهي الصراع السياسي في المنطقة، وإنما يسعى إلي تصفية القضية الفلسطينية، وخلق نسق جديد للصراع حول محور «العداء لإيران». ويمكننا عرض الملامح التي ينطوي عليها مبدأ نتنياهو «السلام مقابل السلام» في ما يلي:

*أولا: القيادة الإسرائيلية في مواجهة فلول الأنظمة القديمة وبقايا التيارات «القومية» العروبية. وهو ما سيقود إلى تغييرات في الخريطة السياسية العربية، ويفتح الباب لموجة جديدة من التغيير في أنظمة الحكم القائمة، لتحقيق التوافق مع المحور الرئيسي الجديد للصراع وقيادته. وقد رسمت إسرائيل مسبقا، بالمشاركة مع الولايات المتحدة، مضمون وملامح التطبيع الجديد، الذي يكتسي أيضا ملامح عقائدية دينية وسياسية واقتصادية وأمنية، تحمل أيضا البصمة الوراثية الأنجيلية – الصهيونية لسياسات نتنياهو وترامب.

“التطبيع الإماراتي – البحريني مع إسرائيل، في جوهره، أساس لإقامة جبهة ضد إيران، وليس لتحقيق السلام والازدهار واستقرار المنطقة “.

*ثانيا: التصفية في مواجهة التسوية للقضية الفلسطينية، وهو ما سينتج تناقضات على المستويين الإقليمي والدولي، بين القوى الداعية لاستراتيجية التسوية وحل الدولتين، التي تضم الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين، ومعها القوى المعتدلة في العالم، في مواجهة القوى الداعمة لاستراتيجية التصفية بقيادة الولايات المتحدة. إن أحد أهم النتائج المترتبة على تكريس خطة التصفية، تتمثل في إغلاق سوق التجارة بالقضية الفلسطينية، وهو ما يضع الشعب الفلسطيني وقيادته أمام مسؤولية تاريخية، في مواجهة استراتيجية اغتيال «الهوية الفلسطينية» إسرائيليا، وسياسات تذويبها وتشويهها عربيا.

*ثالثا: تقسيم جديد للعمل السياسي الإقليمي، حول محور «العداء لإيران». إن التطبيع الإماراتي – البحريني مع إسرائيل، في جوهره أساس لإقامة جبهة ضد إيران، وليس لتحقيق السلام والازدهار والاستقرار. هذا يعني أن المنطقة بأكملها في سبيلها إلى «حرب باردة إقليمية جديدة» وليس إلى عصر سلام واستقرار وازدهار. أول المخاطر المترتبة على ذلك هو تسارع حدة سباق التسلح، والسباق النووي الإقليمي. وقد تستمر هذه الحرب عقودا من الزمان، طالما وجدت مصادر كافية لوقود محركاتها. هذا الوقود اللازم للحرب الباردة، يمكن أن يتوفر حال انقسام العالم من جديد إلى كتلتين متصارعتين، واحدة تقودها الولايات المتحدة ومعها إسرائيل إقليميا، وثانية تقودها الصين وروسيا، ومعهما إيران وتركيا إقليميا. ومن الضروري أن نشير هنا إلى الدور الخاص الذي يلعبه مجلس التعاون الخليجي منذ تأسيسه، باستثناء سلطنة عمان وقطر، في إعادة صياغة نظرية الأمن القومي العربي، حول محور «العداء لإيران» ذلك أن السياسة الخارجية للمجلس تقوم على أساس أن إيران هي مصدر التهديد الرئيسي لأمنه واستقراره.

*رابعا: ارتباك جيوسياسي إقليمي، سيؤدي نقل محور الصراع الرئيسي في المنطقة اتجاه العداء لإيران، إلى ارتباك في صفوف كل من المعسكرين السني والشيعي، اللذين حاولت قوى دولية وإقليمية خلقهما وتطويرهما منذ الحرب العراقية – الإيرانية. كما سيقود إلى ارتباك في اصطفاف القوى غير العربية الشرق أَوسطية: سيقود أولا إلى تقارب إيراني – تركي، سيؤدي الى إرباك المعسكر السني بخروج تركيا منه. وسيقود ثانيا إلى تنافس سعودي – إماراتي، تظهر الآن ملامحه في بعض مواقع الصراع على النفوذ مثل، اليمن وسوريا وليبيا ومصر والقرن الافريقي، وكذلك في ميادين المنافسة التكنولوجية والتفوق الاقتصادي مثل الطاقة النووية، وتكنولوجيا الفضاء، والتوسع الاقتصادي الإقليمي. وسيقود ثالثا إلى تغيير في نسق العلاقات داخل الإقليم لصالح إسرائيل على وجه العموم. وسيقود رابعا إلى إعادة ترتيب ملفات العلاقات بين كل من روسيا والصين من ناحية، والاتحاد الأوروبي من ناحية ثانية، فيما يتعلق بدور كل منهما في الشرق الأوسط. وسيقود خامسا إلى محاولة القوى الأوروبية إعادة اكتشاف دورها المستقل في المنطقة. وأخيرا فإن انقسام الشرق الأوسط إلى محورين حول «العداء لإيران» و»التسوية السياسية للقضية الفلسطينية» سيؤدي إلى تعزيز توجه الولايات المتحدة لتسليم راية القيادة الإقليمية عسكريا وسياسيا إلى إسرائيل، والمساعدة على إقامة نظام دفاعي جديد بقيادتها.

*خامسا: تقسيم العمل الإقليمي الاقتصادي، منذ تأسيس دولة إسرائيل، وعبر الحروب المتكررة التي شهدتها المنطقة، كانت قيادات الدولة تؤمن بأن التفوق النوعي هو السبيل للسيطرة على المنطقة، وأن هذا التفوق يمثل أساس نسق العلاقات المستقبلية في الإقليم ككل. وقد تطورت هذه النظرية بثبات من ديفيد بن غوريون إلى شيمعون بيريز ومناحم بيغن ونتنياهو، على أساس أن تحتل التكنولوجيا الإسرائيلية موقع القيادة والإدارة، وأن يكون المال الخليجي خادما لها، بينما تكون الأيدي العاملة العربية والسوق الواسعة هي مجرد الجهاز العضلي للإنتاج والاستهلاك. وبهذا تتغلب إسرائيل على عقدة «الحجم» التي تعاني منها.

*سادسا: التطبيع الإقليمي المتعدد الأطراف، في صيغة التطبيع بين إسرائيل وكل من مصر والأردن، كان التطبيع ثنائيا في جوهره، على الرغم من الطموحات الإسرائيلية في إقامته ضمن نسق متعدد الأطراف. وما يزال نسق التطبيع المتعدد الأطراف وليس الثنائي، هو محرك الرؤية الإسرائيلية للتطبيع، بما يتضمن بناء شبكة متكاملة من العلاقات تحت الهيمنة الإسرائيلية. ويتضح من التطورات السريعة التي وقعت منذ إعلان الاتفاق الإسرائيلي – الإماراتي في 13 أغسطس، إصرار كل من نتنياهو وترامب على إخراج التطبيع هذه المرة في صيغة «متعددة الأطراف» وهو ما يفسر الهجوم الدبلوماسي الأمريكي المحموم على المنطقة، قبل توقيع اتفاقيات واشنطن، عندما جاء إلى المنطقة وزير الخارجية الأمريكي مايكل بومبيو، وراح يجول بين العواصم العربية لمدة أسبوع، لإضافة عروس جديدة إلى حفل الزفاف، لكنه فشل. ثم جاء بعده صهر الرئيس الأمريكي ومستشار الأمن القومي في زيارة أسفرت عن فتح الأجواء السعودية للطيران الإسرائيلي، والفوز بالحصول على موافقة البحرين لتكون العروس الثانية في حفل الزفاف بعد ضوء أخضر سعودي. كما وضعت زيارة كوشنر النقاط فوق الحروف، فيما يتعلق بالتطبيع المتعدد الأطراف بين إسرائيل والعروستين الجديدتين. كذلك نجح كوشنر في تليين مواقف عدد من الأطراف العربية تجاه إقامة علاقات طبيعية «دافئة» مع إسرائيل، وهو ما شجع الرئيس الأمريكي على أن يعلن في كلمته يوم 15 سبتمبر، أن دولا أخرى عربية وإسلامية ستنضم إلى التطبيع مع إسرائيل.

الاستنتاج الرئيسي: حرب باردة جديدة في الطريق على العكس من أوهام السلام والاستقرار والرخاء، فإن اتفاقيات التطبيع الأخيرة تمهد لتكريس حرب باردة جديدة في الشرق الأوسط بين محورين، أحدهما عربي – إسرائيلي ضد إيران مدعوم أمريكيا، وثانيهما محور إيراني – تركي – فلسطيني مدعوم روسيا وصينيا، بينما سيجد الاتحاد الأوروبي نفسه محشورا في ركن ضيق بينهما. هذه الحرب الباردة الجديدة ستكون اختبارا قاسيا للدور الروسي والأوروبي في الشرق الأوسط، ومدى قدرة موسكو وبكين وبرلين وباريس على مواءمة سياساتها الخارجية في المنطقة مع النسق الجديد للعلاقات الإقليمية، الذي تلعب فيه إسرائيل دورا رئيسيا. على المحك أيضا سيكون دور القيادة الفلسطينية وقدرتها على إقامة تحالفات مرنة لتحقيق تسوية سياسية عادلة ومستدامة.

* كاتب مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى