إبراهيم نوار: هل تسكت المدافع في غزة… أم تشتعل الحرب من جديد؟

إبراهيم نوار 5-2-2025: هل تسكت المدافع في غزة… أم تشتعل الحرب من جديد؟
واحد من أهم عناصر القيادة هو أن تكون أنت الذي تضع جدول الأعمال. وعلى العكس من ذلك فإن أهم مظهر من مظاهر خيبة الدبلوماسية هو أن تجلس إلى مائدة المفاوضات لمناقشة جدول أعمال وضعه الخصم مسبقا طبقا لرؤيته وأولوياته. ونستطيع طبقا لهذه القاعدة الحكم على مسار الدبلوماسية العربية، في ما سبق وما هو آت. ولا شك أن اتفاق الدوحة بشأن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى والمحتجزين يمثل أحد الاستثناءات المهمة في هذا السياق، حيث كانت الرؤية العربية واضحة والأهداف محددة. ومع نجاح المرحلة الأولى من الاتفاق حتى الآن، تتطلع الأطراف المعنية والعالم لأن ينتقل الاتفاق إلى المرحلة الثانية بعد انتهاء المرحلة الأولى، وهي مرحلة تتسم بسمات خاصة، وتحيط بها تطورات مهمة، منها زيارة نتنياهو إلى واشنطن، وبعده كل من ملك الأردن ورئيس مصر، وكذلك زيارة ترامب المرتقبة للرياض.
نتنياهو هو أول زعيم أجنبي يستضيفه ترامب في البيت الأبيض، بعد بداية فترة رئاسته الثانية. وستكون الرياض العاصمة الأجنبية الأولى التي يزورها ترامب. وبين زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي لواشنطن وزيارة الرئيس الأمريكي المرتقبة للرياض، من المرجح أن تجرى مياه كثيرة في نهر الصراع المزمن بالشرق الأوسط، بدءا من مفاوضات المرحلة الثانية لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة، إلى مفاوضات تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية، إلى مستقبل دور إيران وتركيا في المنطقة. فوق كل ذلك والأهم منه هو مستقبل الشعب الفلسطيني في وطنه، وهو مستقبل يواجه خطر الانقطاع بالترحيل وتفريغ الأرض الفلسطينية من شعبها، وهو خطر يعادل إبادة الهوية الفلسطينية وتحويلها إلى مجرد ذكرى تبعث الشجن في النفوس.
وإذا كانت هناك قضية تتصدر كل القضايا في الشرق الأوسط حاليا فإنها ترسيخ وجود الشعب الفلسطيني في أرضه، وحمايته من الترحيل. وربما تقتصر هذه القضية بالنسبة للبعض على الوضع في غزة، لكنها في حقيقة أمرها قضية تتعلق أيضا بالشعب الفلسطيني في الضفة العربية، الذي يواجه خطر التهجير القسري، بإجراءات مثل القتل والحرق ونسف المنازل والاعتقال. وفي ذلك تقف جنين والقدس الشرقية بين الأمثلة الصارخة للحرب الإسرائيلية الصامتة، التي تجري خارج غزة وتستهدف تهويد فلسطين، وتحويل من يتبقى فيها من الفلسطينيين إلى مواطنين من الدرجة الثانية. وتحاول إسرائيل في إدارتها للصراع مع الفلسطينيين إلى فرض أولوياتها على جدول أعمال الدبلوماسية الإقليمية والدولية، ومن المؤسف أنها تنجح في ذلك لسببين رئيسيين: الأول هو العجز المهين للدبلوماسية الحكومية العربية، التي تستأنس الجري في ركاب الولايات المتحدة وإسرائيل، والثاني هو الانقسام السياسي المشين داخل البيت الفلسطيني بين فتح وحماس. وتستعين الدبلوماسية الإسرائيلية في الوقت الحاضر بسلاحين؛ الأول هو شيطنة المقاومة الفلسطينية وادعاء «التهديد الفلسطيني» لوجود إسرائيل، مع أنها تملك أقوى ترسانة عسكرية تدميرية في الشرق الأوسط، والثاني هو خلط أوراق القضية الفلسطينية مع المسألة الإيرانية في الشرق الأوسط، بشقيها السياسي (المحور الشيعي) والعسكري (البرنامج النووي /الصاروخي)، بهدف إغراق مسألة الدولة الفلسطينية في دوامة صراع إقليمي آخر مصطنع، لأن القوة النووية والصاروخية والجوية الإسرائيلية أثبتت قدرتها على تحييد القوة الإيرانية المزعومة خلال الأشهر الأخيرة.
صِدام الأهداف بين المقاومة ونتنياهو
مضى أكثر من أسبوعين على بدء تنفيذ المرحلة الأولى من اتفاق الدوحة الخاص بوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى والمحتجزين في غزة. ينص الاتفاق على أن تبدأ مفاوضات المرحلة الثانية بعد ستة عشر يوما من بدء تنفيذ المرحلة الأولى. ومن المفترض أن مفاوضات المرحلة الثانية بدأت يوم الاثنين الماضي، بهدف إرساء أسس وقف دائم لإطلاق النار، وتبادل المحتجزين الأحياء ورفات من ماتوا منهم في غزة مقابل المزيد من الأسرى الفلسطينيين. كما تتضمن أهداف المفاوضات في تلك المرحلة انسحاب القوات الإسرائيلية بشكل كامل من قطاع غزة، بعد أن شهدت المرحلة الأولى انسحابها من محور نتساريم. ومن المفترض أن يكون الوضع في نهاية المرحلة التالية كالتالي: استعادة إسرائيل جميع المحتجزين الأحياء والأموات، بمن في ذلك المحتجزون قبل أكتوبر 2023، مقابل انسحاب القوات الإسرائيلية تماما من قطاع غزة، مع الالتزام ببنود الاتفاق الموقع بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية عام 2005 بشأن قواعد إدارة المعابر، لكن فهم نتنياهو للاتفاق يقوم على أربعة مقومات: الأول هو نزع سلاح غزة تماما قبل أن تنسحب القوات الإسرائيلية، والثاني هو تحطيم قدرة حماس على حكم غزة، أو التحكم فيها سياسيا وإداريا، والثالث هو إدارة سلطة فلسطينية مؤقتة بتعاون مع الدول التي شاركت في اجتماع وزراء الخارجية العرب، الذي انعقد في القاهرة أول الشهر الحالي، مع الإصرار على استبعاد عودة السلطة الوطنية الفلسطينية. هذه المقومات الأربعة ليست جديدة، إذ كانت الحكومة الأمنية قد وافقت عليها، بناء على عرض نتنياهو في فبراير من العام الماضي.
ومقابل خطة نتنياهو لليوم التالي بعد الحرب في غزة تقف خطة المقاومة الفلسطينية، وهي ليست خطة بالمعنى الدقيق، لكنها مجرد إجراءات تجري على الأرض، تقوم على أساس الحقائق السياسية الجديدة التي أنشأتها المقاومة خلال الـ15 شهرا الأخيرة. أهم هذه الحقائق أن إسرائيل فقدت القدرة على الردع ولم تنجح حتى الآن في استعادتها، وأن حرب الإبادة في أكتوبر 2023 خلقت جيلا جديدا من الفلسطينيين المقاتلين، تتجاوز إرادته الأجيال السابقة، وأن حرب غزة برهنت على أن الفلسطينيين خاضوا وحدهم، ومن دون مساندة الحكومات العربية، أطول الحروب التي خاضتها إسرائيل وأكثرها وحشية ضد الفلسطينيين. كما أن تلك الحقائق تتضمن أن تداعيات الحرب على الداخل الإسرائيلي لم تظهر بعد، وكما كانت حرب أكتوبر 1973 زلزالا هز إسرائيل سياسيا، فإن زلزال حرب أكتوبر 2023 سيكون أشد وأوسع مدى. بمنظار هذه الحقائق ننظر إلى عودة الفلسطينيين من جنوب قطاع غزة إلى الأرض المحروقة في الشمال. ومع أن سماسرة الحروب والعقارات ومنهم ستيف ويتكوف مبعوث ترامب للشرق الأوسط (النسخة الجديدة من جاريد كوشنر) بعد أن رأى بعينيه الصورة الحقيقية في قطاع غزة، فإن تعليقه على الوضع الأسوأ مما يعتقد أي مراقب، يحرض ضمنا ضد عودة الفلسطينيين إلى الشمال، بحجج الدمار، وسقوط البنية الأساسية، وعدم وجود مقومات للحياة هناك. هذه الأسباب نفسها هي محركات قوية لإقامة شروط الإعمار والبدء فيه فورا، لتمكين الفلسطينيين من الإقامة والاستقرار في أرضهم، بدلا من تكريس شروط طاردة من أرضهم، تريد إسرائيل أن تستثمرها في تفريغ غزة من سكانها.
هل تشتعل الحرب من جديد؟
وهناك صدام واضح بين أهداف كل من الطرفين، نتنياهو والمقاومة إزاء غزة، إذ أن نتنياهو يرى أن القوة العسكرية للاحتلال، يجب أن تبقى حتى تنتهي حماس تماما، بينما ترى المقاومة أنها لن تلقي السلاح حتى يرحل الاحتلال تماما. وليس هذا هو الموضوع الشائك الوحيد في مفاوضات المرحلة الثانية من اتفاق الدوحة بشأن غزة، لأن هناك موضوعين آخرين، الأول يتعلق بوجود القوات الإسرائيلية في محور فيلادلفيا، والثاني يتعلق بكيفية إدارة المعابر، حيث أن دور كل من الاتحاد الأوروبي ومصر يتوقف على طبيعة اتفاق بشأن الإدارة الانتقالية في غزة، التي تصر إسرائيل ألا تكون السلطة الفلسطينية أو حماس جزءا منها. وقد ذكرت صحيفة «جيروساليم بوست» في افتتاحيتها يوم الأحد الماضي، أن إسرائيل ستكون على استعداد لإنهاء الحرب إذا توقفت حماس عن الوجود كقوة عسكرية ومدنية وسياسية، بافتراض أنها يمكن أن تقبل ذلك طوعا. في مقابل ذلك فإن الهدف المعلن لحماس هو انسحاب إسرائيل من غزة تماما. ومن المؤكد أن الصدام بين أهداف كل من الطرفين يشكل تحدياً لاستمرار الاتفاق والتهديد باستئناف القتال. الحرب، في هذه الحالة، لن تنتهي إلا بإعادة صياغة أهداف كل منهما. هذا هو التحدي الرئيسي لمفاوضات المرحلة الثانية للاتفاق. ولهذا السبب فإن نتنياهو، طبقا لتقارير أخيرة، يستعد لتعديل تكوين طاقم المفاوضات بإضافة وزير الشؤون الاستراتيجية رون درمر على رأس الوفد، كما يجهز المسرح السياسي المحلي لاحتمال انهيار الائتلاف الحاكم الذي يضم «الليكود» والأحزاب الصهيونية الدينية والمتطرفة، في حال التوصل إلى اتفاق لإنهاء الحرب لا توافق عليه بعض أحزاب الائتلاف. وليس من المتوقع أن تبدأ المفاوضات الجدية بشأن المرحلة الثانية قبل عودة نتنياهو من واشنطن، ووضوح رؤية كل من الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء الإسرائيلي للآخر، فما تزال هناك مسافة تفصل بين سياسة «أمريكا أولا» وسياسة الهيمنة الإسرائيلية في الشرق الأوسط. ويكمن وجه الخطورة في غياب خطة عربية واضحة بشأن المستقبل.