أقلام وأراء

إبراهيم نوار: فوضى الشرق الأوسط: إستراتيجية إسرائيلية أم عبثية مدمرة؟

إبراهيم نوار 4-12-2024: فوضى الشرق الأوسط: إستراتيجية إسرائيلية أم عبثية مدمرة؟

وكأن الشرق الأوسط أصبح مثل مسرح للدمى، التي صنعتها أو شاركت في صنعها وتحركها إسرائيل. إسرائيل تأمر سكان مناطق وشوارع في وسط العاصمة اللبنانية بيروت أن يرحلوا؛ فيرحلون اتقاء للإبادة، ويتركوا وراءهم ما يتحول في ثوان إلى مجرد ركام. وهي تحاصر سكان شمال غزة، وتأمرهم بالرحيل أو الإبادة، حتى رحل أكثر من نصفهم، وأبيدت مساكنهم وبنيتها الأساسية. وهي تتحكم في الضفة الغربية وتقتل من تشاء بتهمة الإرهاب بلا تحقيق، وتهدم بيوتهم وراءهم. وهي اخترقت حدود سوريا، وقتلت من قتلت ودمرت ما دمرت، وكأن سوريا ليست دولة لها سيادة. وهي قررت أن تبني سورا على حدودها مع الأردن، كما فعلت في حدودها مع مصر، مطمئنة إلى أنها تفعل ما تريد، متى تريد، وبالطريقة التي تريد، لأن الآخرين هم مجرد دمى، منهم من صنعت، ومنهم من صنعوا أنفسهم لها؛ فهي إذن تحركهم كيفما تشاء. وما يحدث الآن في سوريا ليس غريبا عن ذلك. ففي سوريا تتقاطع طرق الإمدادات من إيران إلى شرق البحر المتوسط. وفي سوريا تكمن إحدى فوهات بركان الصراع السني – الشيعي. وإذا كانت أهم أهداف إسرائيل بعد الهدنة مع لبنان هي تفكيك محور المقاومة، وإضعاف إيران، وتعزيز أمن حدودها مع الأردن ولبنان، فإن استئناف الحرب الأهلية في سوريا يمكن أن يحقق لها ما تريد.
استئناف الحرب الأهلية السورية قد يبعث من الرقاد نسخة جديدة من الحرب المذهبية بين السنة والشيعة. حرب تحمل معها كل مخزون الكراهية والقسوة التي تحملها طبيعة الحروب المذهبية والدينية في تاريخ العالم، ولن تنتهي تلك الحرب بسرعة، لأن أطرافا كثيرة لها مصالح متعارضة سوف تتورط فيها.

تركيا تعتبر أن أمن حدودها مع سوريا هو واحد من أهم دعائم أمنها القومي، خصوصا أن ما تعتبره إرهابا داخليا تمتد جذوره في سوريا والعراق. كما أن الأردن يعتبر أن أمن حدوده الشمالية الغربية مرتبط بالاستقرار في سوريا. فإذا لقيت درعا مصير حلب، فإن الأردن سيكون مهددا، ليس بسبب حصار «الهلال الشيعي»، ولكن هذه المرة بتهديد الجماعات الدينية السنية المتطرفة. وإذا كانت إسرائيل تعتبر أن أحد مصادر تهديد أمن حدودها مع لبنان هو تهريب الأسلحة من سوريا، فقد تصبح إقامة منطقة عازلة في المثلث الحدودي الواقع بين لبنان والأردن وسوريا حلا مثاليا لضمان إبعاد التهديد، وربما لن يحدث ذلك إلا بإثارة قدر كبير من الفوضى والمواجهات العسكرية بين هيئة تحرير الشام في سوريا وحزب الله في لبنان. العراق الذي عاش سنوات الحرب مع «داعش»، سيعود مهددا، خصوصا أن الميزان الديموغرافي في غربه يميل لمصلحة القبائل العربية السنية.

في هذه المعادلة، معادلة تجدد الحرب الأهلية السورية على أساس مذهبي، ستجد إيران نفسها في موقف لا تحسد عليه. إنها خسرت فعليا عددا من قادتها العسكريين، مثل الجنرال كيومارس بورهاشمي أحد كبار قادة فيلق القدس الإيراني في سوريا. كما خسرت الكثير من المزايا اللوجستية والسياسية والعسكرية باقتحام قوات هيئة تحرير الشام قنصليتها في حلب، وأصبح الطريق إلى حمص، مهددا. هذه الخسائر تأتي في وقت صعب للقيادة السياسية في طهران. الزعيم الإيراني السيد علي خامنئي ليس في حالة طيبة، شفاه الله. رئيس الجمهورية الجديد مسعود بزشكيان يحاول تلمس طريقه بحذر شديد حتى لا يقع في صدام، أو قطيعة مع الحرس الثوري. كما أن طهران أصبحت تدرك أن إسرائيل ليست مجرد تهديد خارج الحدود، وإنما هي أيضا تهديد داخلي، من الضروري اكتشاف عناصره واجتثاثها لضمان الأمن والاستقرار. ردود الفعل الأولية في طهران تتهم إسرائيل بأنها وراء ما يحدث في سوريا، وتحذر من تغيير محور الصراع الإقليمي. ومع ذلك فلا يبدو أن لديها القدر الكافي من الاستعداد لدخول مواجهة مباشرة ضد قوات هيئة تحرير الشام، والفصائل الأخرى في سوريا. وقد اختارت إيران بدلا من ذلك إطلاق حملة دبلوماسية إقليمية بقيادة رئيس الجمهورية ووزير الخارجية، من أجل وضع تصور لتأمين سوريا وحمايتها من التفكك، وحماية نظام بشار الأسد من السقوط. المعضلة هنا هي أن القوة الإقليمية التي يمكن أن تساعد المجهود الإيراني، وهي تركيا، لا تثق في بشار الأسد. ومع أن استقرار سوريا يعنيها بسبب خط الحدود الطويل معها، فإنها غير معنية كثيرا ببقائه. الأكثر من ذلك أنها قد تجد في انهيار حكم الأسد، فرصة لاحتلال شريط حدودي أوسع، وفرض أمر واقع جديد، ربما يسمح عمليا بضم أجزاء من سوريا.

روسيا

تمثل قاعدة حميميم البحرية والجوية القاعدة العسكرية الروسية الوحيدة في شرق البحر المتوسط. ويمثل المتوسط منفذ روسيا الرئيسي على المياه الدافئة في العالم. ومع أنها لا تمثل قوة بحرية عالمية عظمى بقدر ما هي قوة عظمى نووية وصاروخية، فإن الغواصات الهجومية النووية ما تزال تعتبر واحدة من أهم مقومات الردع العسكري الروسي. ومن مصلحة روسيا الإبقاء على قاعدة حميميم، باعتبارها أحد أهم خطوط الإمدادات الاحتياطية في الحرب الأوكرانية. وكانت روسيا قد تدخلت عسكريا لإنقاذ بشار الأسد من السقوط عام 2015، ومنذ ذلك الوقت تطورات علاقات التقارب بينها وبين إيران عسكريا ودبلوماسيا. روسيا نظرا للموقف الراهن في الحرب الأوكرانية، تعتمد على بلدان أخرى في إمدادها بالأسلحة، أهمها إيران (الطائرات المسيرة والصواريخ)، وكوريا الشمالية (الصواريخ والأفراد). وعلى الرغم من أن الطيران الروسي يلعب دورا محوريا في ضرب معاقل قوات التنظيمات الإسلامية السنية المسلحة، فإن فتح جبهة ثانية يحارب فيها الجيش الروسي لفترة غير معلومة سيكون عبئا ثقيلا عليه، يؤثر سلبا على المجهود الاستراتيجي في أوكرانيا. ومن المرجح أن يفتح استئناف الحرب الأهلية في سوريا خط اتصال سريع بين موسكو وتل أبيب في ما يتعلق بخطط التصدي للمقاتلين المعادين للأسد، وتبادل المعلومات الاستخباراتية. وربما يستخدم هذا الخط في بناء تفاهمات جديدة بين إسرائيل والرئيس السوري، تساعد على تثبيت حكمه في مقابل إغلاق طرق الإمدادات التي تغذي شرايين قوة حزب الله في لبنان عسكريا وماليا ولوجستيا. ومن المرجح أن تلعب الإمارات أيضا دورا مهما في هذا السياق بدوافع أيديولوجية.

إسرائيل

بعد توصل إسرائيل إلى عقد اتفاق هدنة مؤقتة مع لبنان، يتحول المجهود العسكري الرئيسي إلى الضفة الغربية، وتنتقل مفاوضات ما بعد الحرب في غزة إلى مرحلة جديدة، حتى إن استمرت المواجهات العسكرية المركزة في شمال غزة والمتفرقة في بقية الأنحاء. عنوان الحرب الجديدة في الأرض المحتلة هو «التهويد»، وذلك بالتركيز على فصل شمال الضفة وشمال قطاع غزة، وتوسيع نطاق الاستيطان المعزز بالقوة المسلحة في هذه المناطق، بهدف استيعاب ما يصل إلى مليون مهاجر جديد من يهود العالم خلال السنوات القليلة المقبلة. وعلى غرار اتفاق الهدنة اللبناني فإن الشرط المطلق التي تصر عليه إسرائيل في مفاوضات غزة هو بقاء الجيش الإسرائيلي وحرية حركته تماما. الشرط الثاني هو إنهاء وجود حماس عسكريا وإداريا. والشرط الثالث هو سيطرتها الكاملة على الحدود بين قطاع غزة ومصر. مسألة استعادة المحتجزين لا تهم نتنياهو كثيرا مقارنة بتلك الشروط الثلاثة. ومن ثم فقد لجأت حماس إلى حيلة نشر فيديو مسجل لواحد من المحتجزين يحمل الجنسية الأمريكية – الإسرائيلية لمناشدة الرئيس الأمريكي المنتخب العمل بجدية على التوسط لعقد صفقة لاستعادتهم. الأولوية التالية بعد حرب التهويد هي إضعاف نفوذ إيران الإقليمي. وجهة النظر هذه يتبناها مئير بن شبات مستشار الأمن القومي سابقا، وهو واحد من أهم مستشاري نتنياهو غير الرسميين في الوقت الحالي. وهو يعتقد أن الحرب ضد إيران ليست مطروحة حاليا على جدول الأعمال، مع بقاء الخط الأحمر بشأن عدم السماح لها بامتلاك سلاح نووي. ما تريده إسرائيل حاليا هو إضعاف إيران وتثبيت المكاسب التي حققتها، وجعلها جزءا من مقومات الأمر الواقع، حتى تبدأ حقبة سياسية جديدة لإعادة رسم خريطة المنطقة بالتنسيق مع الإدارة الأمريكية المقبلة.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى