أقلام وأراء

إبراهيم نوار: غزة تقدم للعالم تجربة غير مسبوقة في حرب المدن

إبراهيم نوار 29-5-2024: غزة تقدم للعالم تجربة غير مسبوقة في حرب المدن

ذهبت إسرائيل إلى غزة لاجتثاث المقاومة، فتمكنت منها المقاومة، وفككت قوتها العسكرية وأسقطتها في مستنقع سياسي عميق، ليس هذا فقط، بل إن المقاومة وصمود الشعب الفلسطيني وتضامن شباب العالم، جعل إسرائيل دولة منبوذة تطاردها اللعنات في العالم كله.

خلال أسابيع قليلة مضت أصدرت المحكمة الجنائية الدولية قرارا بالقبض على رئيس الوزراء ووزير الدفاع، وأصدرت محكمة العدل الدولية قرارا بضرورة وقف العمليات العسكرية في رفح، وإدخال المساعدات الإنسانية إليها، وسارعت مجموعة من الدول الأوروبية بإعلان الاعتراف بدولة فلسطين، وقررت دول أخرى منها هولندا وكندا وقف صادرات السلاح إلى تل أبيب.

كل هذا لم يكن ليحدث من دون صمود الشعب الفلسطيني، ومن دون تجربة فريدة تقدمها المقاومة في الدفاع عن حلم الشعب الفلسطيني وحقه في أن تكون له دولة مستقلة آمنة ذات سيادة يتمتع فيها بالأمان والرفاهية. المقاومة في مرحلتها الحالية تعيد كتابة تاريخ فلسطين والشرق الأوسط والعالم.

لقد استطاعت غزة تحويل القوة العسكرية الإسرائيلية إلى مجرد شبح باهت، وأثبت صمودها أن إمعان إسرائيل في تدمير المدن وتسويتها بالأرض، وقتل أهلها بالجوع والرصاص ليس دليلا على قوتها، بقدر ما هو دليل على يأسها. وقد كانت الولايات المتحدة قد سبقتها إلى ذلك منذ عقود، في قتل ما يقرب من مليونين من السكان في فيتنام، منهم أكثر من مليون من مقاتلي المقاومة «الفييت كونغ»، وتخريب وحرق وإزالة ما يقرب من نصف الغابات الطبيعية في جنوب فيتنام، لكنها بعد ذلك خرجت من هناك مهزومة تجر أذيال الخزي والعار.

وقد اعتقد قادة الآلة الحربية الإسرائيلية أن تدمير المدن في قطاع غزة وقتل السكان، أو تهجيرهم قسرا وغدرا يحرم المقاومة الفلسطينية من مجالها الطبيعي الذي تعيش فيه وتحتمي به، تماما كما يحدث للسمك عندما يتم تجفيف المياه الجارية من حوله. ورغم الحصار والتدمير والقتل فقد أثبتت المقاومة الفلسطينية أنها تستطيع أن تفعل المعجزات؛ أن تقاتل على أرض محروقة بلا كلل، وأن تلحق الخسائر بعدوها البربري بلا خوف، وأن تستمر العلاقة بينها وبين السكان قوية تتنفس هواء الإرادة الحرة والعزيمة الصلبة.

لقد ذهبت القوات الإسرائيلية إلى غزة وهي تعتقد أنها مهدت الأرض، واستكملت كل الشروط اللازمة لاصطياد المقاومة الفلسطينية في أسابيع قليلة، فاصطادتها المقاومة، وأوقعتها في مستنقع لا تستطع الخروج منه حتى الآن وقد دخلت فيه شهرها الثامن. وعندما اعتقدت القيادة العسكرية الإسرائيلية في أوائل العام الحالي أنها تستطيع الخروج منه، فإنها وجدت نفسها تغوص في الوحل أكثر فأكثر، حتى أن رئيس أركان حرب القوات الأمريكي الجنرال تشارلز براون وصف خطتها العسكرية بأنها أكبر أسباب حالة «الفوضى العسكرية» التي تعاني منها حاليا. وقال براون في الأسبوع الماضي أن تكرار انسحاب القوات الإسرائيلية من مواقع ثم عودتها إليها يحمل تداعيات خطيرة على وضعها الميداني، وأن عليها أولا أن تضمن تحقيق الاستقرار في منطقة العمليات، لكن الجنرال الأمريكي نسي أن القوات الإسرائيلية لا تملك القدرات البشرية والمعنوية للبقاء في غزة من أجل تحقيق الاستقرار.

تدمير المدن للسيطرة عليها

لم تجرؤ إسرائيل على دخول غزة بريا، إلا بعد الضربات الجوية البربرية التي شنتها عليها خلال الفترة من 7 إلى 27 أكتوبر الماضي، وكان هدف الهجوم البري الشامل هو عزل المقاومة وحصارها، وحرمانها من كل مقومات الحياة والقدرة على القتال. ولم تكن إسرائيل تستطيع تحقيق ذلك، من دون السيطرة على المدن التي تتمركز فيها المقاومة. يقول إيال وايزمان أستاذ الهندسة المدنية في جامعة لندن، أحد أهم خبراء حرب المدن الإسرائيليين، في ما يخص العلاقة بين الحرب والعمران المدني، إن أهم عناصر النجاح في تصفية المقاومة يتمثل في السيطرة على المدن نفسها، وإن ذلك لا يتحقق، من دون السيطرة على الطرق والتحكم في التحرك بين الشوارع والأحياء المختلفة.

وقد استنتج خبراء حرب المدن بناء على دراسة التجارب الشهيرة مثل، ستالينغراد، وفي الحروب الأخيرة مثل غروزني (الشيشان) والفلوجة والموصل ومدينة الصدر (العراق) و (ماريوبول) أوكرانيا، إن المهمة الأولى للقوات المهاجمة هي حرمان المقاومة من حرية العمل والمناورة، وقطع طرق إمداداتها لتحقيق الانتصار عليها. وهكذا فإننا إذا أعدنا النظر في ما فعلته إسرائيل في غزة حتى الآن، فإننا نستنتج على الفور أنها سعت منذ اليوم الأول إلى حرمان المقاومة من درعها الواقي، بقتل السكان على أوسع نطاق ممكن، وحرمانها من استخدام مزايا المعرفة بالمكان عن طريق تخريب وتدمير الأحياء السكنية وتسويتها بالأرض، وقطع كل خطوط الإمدادات اللوجستية القائمة، بما في ذلك محطات المياه والكهرباء والاتصالات والمخابز والمستشفيات والطرق ووسائل النقل، بهدف خنق المقاومة تماما، حتى تموت داخل الأنفاق، مع شن حرب نفسية ضد المقاتلين بنشر شائعات عن اقتحام الأنفاق بالغازات السامة وإغراقها بمياه البحر.

ومع ذلك فإن إسرائيل عجزت عن حرمان المقاومة من حرية التحرك والمناورة، فما تزال المقاومة تتمتع بحرية الحركة في غزة، وقادرة على مواصلة ضرباتها لقوات الاحتلال وسط حطام المدن المدمرة، وتوجيه ضرباتها الصاروخية من شمال غزة وجنوبها إلى تل أبيب وهرتسليا وبئر السبع وسديروت وأشدود وغيرها، كما حدث في الأيام الأخيرة.

لا بقاء للقوات الإسرائيلية في غزة

لا تستطيع إسرائيل البقاء في غزة طالما بقيت المقاومة مشتعلة هناك شمالا وجنوبا وفي الوسط؛ فهي مهما كان تفوقها في الذخائر والأسلحة لا تملك القوة البشرية الكافية للسيطرة عليها وتحقيق الاستقرار الذي دعا إليه الجنرال براون، ولا الانتصار الذي يحلم به نتنياهو. إسرائيل قالت إن حماس ما تزال تحتفظ في غزة بما يقرب من أربعة كتائب مقاتلة، وهي تهاجمها الآن بما يقرب من أربعة ألوية تضم تشكيلات من القوات الخاصة والمدرعات والمدفعية والاستطلاع والهندسة العسكرية، منها لواء «جفعاتي» الذي تفخر به، إلى جانب قوات عسكرية غير نظامية، والهجمات الجوية التي لا تتوقف. وقد أعادت إسرائيل حشد قوتها العدوانية في غزة بما يضمن لها التفوق البشري، حيث تهاجم بنسبة عددية تصل إلى 10 :1، في حين أن المعدل المعروف عالميا في الحروب بشكل عام يصل إلى 3: 1، ويرتفع في حروب المدن إلى 6: 1 لضمان نجاح ضرباتها.

ومع ذلك فإن المقاومة التي تحارب على أرض محروقة بنسبة 75 في المئة تقريبا استطاعت في الأيام الأخيرة أن تثبت قدرتها على تطوير عملياتها ضد القوات الصهيونية البربرية. وخلال الأيام الخمسة منذ 16 من الشهر الحالي حتى يوم 22، استطاعت المقاومة قتل وجرح 96 عسكريا إسرائيليا، منهم 8 قتلى عادوا في أكياس سوداء إلى ذويهم، و88 جريحا منهم 24 أصيبوا بجروح خطيرة، بنسبة جرحى إلى قتلى تعادل 11: 1 حسب الأرقام الرسمية المعلنة. هذه الأرقام تعني عودة المتوسط اليومي لأعداد القتلى والجرحى في صفوف الجيش الإسرائيلي للارتفاع منذ الخامس من الشهر الحالي بعدما توقفت مفاوضات ترتيب هدنة جديدة تتضمن وقفا لإطلاق النار، وتبادل الأسرى والمحتجزين على الجانبين.

ولن تستطيع القوات الإسرائيلية إقامة أي نوع من التوازن العسكري مع المقاومة في قطاع غزة، إلا بزيادة عدد وأسلحة القوات المتمركزة في كل مدن القطاع، وهو ما يحتاج إلى أعداد كبيرة من الجنود العاملين وقوات الاحتياط، وهو ما لا يتوفر لإسرائيل لا الآن ولا في الغد ولا حتى في المستقبل. ومن ثم فإن القوات الإسرائيلية في غزة محكوم عليها بالموت أو الرحيل، طالما أن المقاومة قادرة على جعلها تنزف كل يوم حتى تخور وتنهار.

الحد الأقصى من قوات الاحتياط الذي تستطيع إسرائيل تجنيده، وهو ما شهدناه منذ بداية الهجوم البري على غزة لا يتجاوز 350 ألف عسكري. هذا العدد يعني سحب ما يتراوح بين 10 – 15 في المئة من قوة العمل الإسرائيلية من السوق، وهو ما لا تستطيع إسرائيل تحمله اقتصاديا لا في الأجل القصير ولا في الأجل الطويل. وقد كان ذلك أحد الأسباب الرئيسية لسحب جزء من قوات الاحتياط من غزة في شهر يناير الماضي. ومع استمرار تدهور الاقتصاد على التوازي مع تدهور الوضعين السياسي والعسكري، الخارجي والداخلي، فإن القوات الإسرائيلية لن تجد أمامها مخرجا من المعضلة الغزاوية إلا بالهروب عبر الحدود، أو التفكك إلى عصابات مسلحة يحارب كل منها حربا خاصة من أجل البقاء. وعندها تصبح صيدا سهلا للمقاومة فتطاردهم حتى نهايتهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى