أقلام وأراء

إبراهيم نوار: حتى لا تقع تركيا في مصيدة استنزاف عسكري في سوريا

إبراهيم نوار 15-1-2025: حتى لا تقع تركيا في مصيدة استنزاف عسكري في سوريا

ارتفع في أنقرة صوت التهديدات بالتدخل العسكري لإنهاء وجود مقاتلي حزب العمال الكردستاني في سوريا. الرئيس اردوغان قال، الأسبوع الماضي، في اجتماع لقيادات حزبه: «الإرهابيون لديهم خياران فقط: إما التخلي عن الإرهاب وإلقاء السلاح، أو مواجهة الفناء الحتمي». وفي مؤتمر صحافي في اليوم نفسه، أكد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أن «تركيا تمتلك القوة والقدرة، والأهم من ذلك تمتلك العزم على القضاء على جميع التهديدات التي تواجه بقاءها في منبعها». وحدد فيدان مطلب تركيا الرئيسي قائلا، إن على وحدات حماية الشعب أن تحل نفسها، وأن يغادر أعضاؤها غير السوريين سوريا، ومن ثم يمكن للآخرين أن يندمجوا مع النظام السياسي الجديد. وأكد أن «تركيا لا تقاتل الأكراد، بل تقاتل حزب العمال الكردستاني».

هذا التمييز الدقيق بين الأكراد السوريين المنخرطين في قوات سوريا الديمقراطية، وغيرهم، على الأخص الأكراد الأتراك الأعضاء في حزب العمال الكردستاني مهم جدا، لأنه يميز بين ما يخص تركيا في العملية السياسية السورية وما لا يخصها، ويؤكد وجود نطاق للتعاون بين الحكومة التركية والإدارة الانتقالية في سوريا، في تحقيق هدف «حصر السلاح بيد الدولة»، لضمان ألا تتحول سوريا إلى واحد من مراكز الإرهاب العالمي.

وتقول الولايات المتحدة إنها تؤيد العمل على تحقيق الهدف نفسه، على الأقل في الظاهر، وهو ما أكد عليه القائم بأعمال وكيل وزارة الخارجية الأمريكية جون باس، في مباحثاته الأخيرة في أنقرة. حتى هنا لا تبدو هناك مشكلة لتركيا، لا مع النظام الجديد في دمشق، ولا مع الولايات المتحدة. لكن الأمور على الأرض لا تبدو بهذه البساطة، بل إنها مليئة بالأشواك والعقبات. هناك أولا إسرائيل، التي لا تريد نفوذا تركيا على حدودها، أيا ما يكون المبرر. وهي تستطيع تحريك جماعات كردية سورية، وجماعات درزية، وقيادات عسكرية بعثية سابقة في الاتجاه الذي تريده، بمساعدة الولايات المتحدة، إذا احتاج الأمر، خصوصا أن واشنطن باتت تخطط للاعتماد أكثر على إسرائيل في تحقيق أجندتها الإقليمية في الشرق الأوسط، من أجل التفرغ لمواجهة كبرى متعددة الأبعاد مع الصين.

وهناك ثانيا العلاقات العضوية بين قوات سوريا الديمقراطية وقوات حماية الشعب الكردية، من حيث تداخل وتشابك العلاقات بين المقاتلين من أصل سوري وغيرهم من المقاتلين من الأكراد من أصل تركي، والمقاتلين المنتمين إلى قبائل عربية. وقد استطاعت تركيا من خلال احتلالها لمناطق جبل قنديل في شمال كردستان العراق تقليص حركة مقاتلي حزب العمال الكردستاني عبر الحدود العراقية – التركية بالتنسيق مع القيادات الكردية العراقية. وهي الآن تعمل على قطع الطريق على حركتهم عبر الحدود السورية – التركية، بالعمل على إغلاق الممر الواقع في المنطقة الممتدة بين كوباني ومنبج. ومع أن الولايات المتحدة تشجع الحوار بين السلطة السورية الجديدة، وقيادة قوات سوريا الديمقراطية، فإن الحوار لا تتوفر له حتى الآن المبادئ التوجيهية العملية، التي يمكن أن تؤدي إلى نجاحه. النقطة الإيجابية المتفق عليها هي استبعاد أي مطلب للأكراد السوريين بتقسيم سوريا.

لكن هذا لا يعني تسليم السلاح، ولا الاندماج في الجيش السوري الجديد، ولا قبول العيش داخل دولة مركزية تعيد، من وجهة النظر الكردية، إنتاج الظلم القومي الذي يعاني منه الأكراد. وهناك ثالثا ضرورة إعادة تقييم الدور الذي تقوم به قوات سوريا الديمقراطية في إدارة مخيمات معسكر «الهول»، حيث يُحتجز أعضاء «داعش» وأسرهم في شمال شرق سوريا. ولا تأمن الولايات المتحدة أن يقوم أي طرف غير هذه القوات بهذا الدور. ولا يمكن إيجاد حل لمعضلة وجود هذا المعسكر من دون توافق دولي وإقليمي، حيث تعتبر الولايات المتحدة نفسها قائدة الحرب على الإرهاب في العالم، وترى دول عربية أن استمرار وجود هذا المعسكر تهديد لأمنها. وهناك رابعا رغبة فرنسا في العودة إلى منطقة شرق البحر المتوسط والمحافظة على دور أكبر فيها من البوابة السورية. هذا الدور ترفضه تركيا بقوة، وهو ما عبر عنه أردوغان ووزير خارجيته، باستبعاد تواصل تركيا مع أي طرف خارجي في الشأن السوري والكردي، باستثناء الولايات المتحدة.

أردوغان قال إن «الولايات المتحدة هي نظيرتنا الوحيدة.. بصراحة، نحن لا نأخذ في الاعتبار الدول التي تحاول تعزيز مصالحها في سوريا من خلال الاختباء وراء القوة الأمريكية»، في إشارة إلى فرنسا، بعد أن اقترح ​​مسؤولون من وحدات حماية الشعب الكردية أن تقوم فرنسا بنشر قوات للسيطرة على الحدود التركية السورية.

وهناك خامسا شكوك دول عربية مثل مصر، وغير عربية مثل الصين بشأن موقف الإدارة السورية الجديدة من المقاتلين الأجانب، الذين حصلوا على رتب عسكرية رفيعة في الجيش السوري. هذه الشكوك يمكن إزالتها بإقامة اتساق منطقي بين رغبة تركيا في إبعاد المقاتلين الأتراك، ورغبة دول أخرى مثل الصين ومصر وروسيا في ضرورة إبعاد المقاتلين الأجانب كافة من سوريا.

هذه الاعتبارات التي أشرنا إليها تجعل أي تدخل عسكري تركي على نطاق واسع في سوريا، لاستئصال تهديد مقاتلي حزب العمال الكردستاني مغامرة غير مأمونة العواقب، ما يستدعي التمهل في التعامل مع هذا التهديد، ومحاولة وضع استراتيجية متوسطة الأجل لعزل هؤلاء المقاتلين، وتسهيل طردهم من سوريا بأقل الخسائر.

وإذا تعجلت تركيا في أمر التخلص من هذا التهديد، فقد تتحول سوريا إلى ساحة حرب جديدة لسنوات مقبلة. في هذه الحالة فإن العملية السياسية السورية ستكون مهددة داخليا، كما أن حدود تركيا لن تصبح أكثر أمانا، بل إنها يمكن أن تتعرض لاستنزاف عسكري واقتصادي ودبلوماسي يعيدها إلى الوراء، ولن يكون الشرق أكثر استقرارا. كذلك فإن وجه الخطورة في استعجال مواجهة تهديد حزب العمال الكردستاني أنه يمنح إسرائيل فرصة تحلم بها لاستنزاف تركيا عسكريا، بعد أن تقع في المصيدة التي وقعت فيها روسيا مرتين، الأولى في عام 1979 في أفغانستان، استمرت حتى عام 1989 وانتهت بسقوط الدولة السوفييتية. والثانية في عام 2022 في أوكرانيا وهي مستمرة إلى الآن وسط تصميم من حلف الأطلنطي على تمديدها إلى ما شاء الله. 

في كل من المرتين تدخلت روسيا لنصرة حلفائها، وكان الاعتقاد هو أن العملية العسكرية ستنتهي بسرعة، لكن ذلك الاعتقاد كان خاطئا. ومع أن تركيا دولة عضو في حلف الأطلنطي، فإنها ما لم تتعرض لعدوان على أرضها أو مياهها وأجوائها الإقليمية، فإن الحلف لن يقف معها، ولذلك فإن إسرائيل تفضل جر تركيا إلى حرب استنزاف طويلة على الأرض السورية، يكون فيها الأكراد هم وكيلها الإقليمي، يحاربون معركتها الجديدة بدعم عسكري ومالي ودبلوماسي بالتعاون مع الولايات المتحدة. في هذه الحالة فإن تركيا بدلا من أن تنجر إلى مواجهة عسكرية مع الأكراد، يتعين عليها إقامة توافق مع السلطة الجديدة في سوريا، من أجل ضمان نجاح العملية السياسية أولا.

في هذه الحالة فإن فصل الأكراد الأتراك عن السوريين يصبح هدفا مشتركا، يخدم مسار العملية السياسية التي تسعى سوريا لتحقيقها، كما يخدم اعتبارات الأمن القومي التي تحتاج إليها تركيا. ومع أن القيادة السياسية التركية أكدت هذا المعنى على لسان اردوغان، فإن الرسالة السياسية في هذا الخصوص يجب أن تكون مفهومة وواضحة تماما لدى الأكراد أنفسهم؛ وهو شرط مهم لاكتمال عناصر الرسالة، فلا يكفي أن تكون الرسالة السياسية مفهومة فقط للأتراك، ولا للسلطة السورية الجديدة، وانما يجب ان تكون مفهومة ومقبولة تماما للمخاطبين بها، وهم الأكراد السوريين. من دون ذلك سوف تعارض الولايات المتحدة نزع سلاح الأكراد السوريين، طالما هم يقومون بدور حيوي في حماية القاعدة الأمريكية في «التنف»، وحراسة معسكر احتجاز أعضاء «داعش» الذين ترفض دولهم الأصلية عودتهم. كما يتعين أيضا أن تتم العملية السياسية في سوريا في إطار توافق إقليمي، تحكمه مجموعة خطوط حمراء، أهمها ألا تخضع سوريا لوصاية خارجية عربية أو دولية، وألا تكون منصة لتهديد أمن واستقرار دول المنطقة.

الدولة الوحيدة التي يمكن أن تجني محصولا وفيرا من أي خطأ عسكري تركي في سوريا هي إسرائيل، التي تقف الآن متأهبة للقفز على سوريا، من الجنوب والشرق والساحل. إسرائيل تناقش الآن في العلن احتمالات مواجهة عسكرية ضد تركيا على أرض سوريا، وما تقرير «لجنة ياكوف ناجل» عن ضرورات رفع المستوى التسليحي للجيش الإسرائيلي وزيادة قدراته الهجومية، استعدادا لمواجهة محتملة مع تركيا إلا مجرد رأس جبل هذه المناقشات في دولة ترى أن وجودها يتحقق بالحرب المستمرة على جيرانها.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى