إبراهيم نوار: استراتيجية للتحرير… ودبلوماسية لحماية المدنيين في غزة

إبراهيم نوار 30-4-2025: استراتيجية للتحرير… ودبلوماسية لحماية المدنيين في غزة
الخلط بين الأهداف طويلة الأجل والأخرى ذات الأجل القصير، يمكن أن يؤدي إلى تقديم أولويات الحلول قصيرة الأجل، التي قد تُنتِج تداعيات تتناقض مع مسار استراتيجية التحرير، وتؤدي لإعاقة بناء الوطن الآمن الديمقراطي. إن أي مفاوضات تقع في فخ هذا الخلط، تخدم في نهاية الأمر، ومن دون أن تعي، أهداف سياسة «إدارة الحرب»، بغرض استعادة المحتجزين، وتمديد أجل الاحتلال التي يتبناها نتنياهو. وتواجه المفاوضات بشأن وقف الحرب في غزة حاليا معضلة كبرى، لأن إسرائيل تسعى لاستعادة المحتجزين مع استمرار الاحتلال، في حين ترفض حماس تبادل الأسرى والمحتجزين من دون وقف الحرب، كخطوة أولى على طريق تسوية شاملة. إسرائيل من ناحيتها تحاول إدارة الحرب بتفكيك هدفها الكبير إلى أهداف جزئية صغيرة، على رأسها هدف نزع سلاح المقاومة، لأن نزع السلاح يجرد المقاومة من القدرة على القتال.
ونظرا لأن حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة فقدت أي معنى سياسي لها، فإن نتنياهو لا يجد سلاحا يضغط به غير التهديد بالمزيد من الحرق والقتل والتدمير. وهو بهذا يراوح في مكانه، ولا يتقدم بوصة واحدة في اتجاه تحقيق أهداف الحرب كما يريدها. المعضلات التي تواجه الجيش الإسرائيلي تشمل ضرورة الموازنة بين زيادة الضغط العسكري والمخاطر التي تهدد حياة المحتجزين؛ والقيود المتوقعة على القوات المتاحة، بسبب تراجع الالتحاق بالاحتياط والحاجة إلى الاستعداد العملياتي في جبهات إضافية؛ وإدارة عملية استعراض القوات والأسلحة والذخائر، إلى جانب العواقب الاقتصادية والسكانية الناجمة عن مواجهة طويلة الأمد. وتشير أحدث بيانات السكان في إسرائيل، إلى أن تدفقات المهاجرين من الخارج هبطت بنسبة 24 في المئة خلال الـ12 شهرا الأخيرة. وفي المقابل فإن المقاومة الفلسطينية استعادت في الأسابيع الأخيرة قدرتها على الرد، وحرمت قوات العدو من الإفلات من دون عقاب. وقد تعرضت قوات الاحتلال لخسائر مؤلمة في شمال غزة وفي جنوبها، حيث شنت المقاومة عمليات هجومية، بهدف تدمير الآليات والاستحواذ على الأسلحة والذخائر، وجرح أكبر عدد ممكن من العسكريين الإسرائيليين، وقتل آخرين. وربما تحين الفرصة لأسر عدد من الجنود والضباط الإسرائيليين، وهو هدف مهم حاليا، بسبب التأثير السياسي والعسكري والنفسي الممتد لعمليات أخذ الأسرى، الذي يفوق بعشرات المرات تأثير عمليات قنص جنود الاحتلال، أو إصابتهم بجروح. وتستطيع المقاومة من خلال الاستثمار الذكي لقواها الذاتية، رغم كل الخسائر التي لحقت بها، أن تفرض على العدو حدودا لسياسة التصعيد العسكري، سواء في غزة، أو في الضفة الغربية، بتوجيه ضربات خاطفة مؤلمة. وكلما استطاعت المقاومة تجنب الضربات العسكرية الإسرائيلية ستكون لها اليد العليا، نظرا لأن الجيش الإسرائيلي يعاني من انقسامات سياسية، ومن نقص في أعداد المجندين، ومن ضعف التأييد لاستمرار الحرب على حساب استعادة المحتجزين، ومن خشية أن تؤدي عمليات عسكرية أكثر وحشية إلى موت من تبقى من المحتجزين الأحياء.
نزع السلاح ممكن في إطار تسوية شاملة
بمنطق الزمن الممتد، حتى يوم القيامة، تظل البندقية سلاح الشعوب للتحرر من الاحتلال والقهر. وبمنطق اللحظة القصيرة تبقى البندقية جزءا من هوية المناضلين من أجل التحرر والخلاص من الظلم القومي. وعلى الرغم من ترسانة القوانين والتشريعات التي صدرت حول العالم، لتجريد شعوب البلدان المحتلة من حق الكفاح المسلح، ووصفت هذا الكفاح بـ»الإرهاب»، فإن تجارب التحرير الكبرى في العقود الأخيرة من القرن الماضي، وأهمها أيرلندا الشمالية وجنوب افريقيا، برهنت على أن نزع سلاح المقاومة مشروط باتفاقيات سياسية تعيد صناعة المستقبل، وتتضمن تعديلات دستورية وقانونية وتنظيمية، تنشئ واقعا جديدا يقف فيه المظلوم أمام الظالم منتصرا لنفسه بغير خيلاء، وصاحب حقوق متساوية تماما. في هذا السياق لم يكن نزع سلاح الجيش الجمهوري الأيرلندي، طبقا لاتفاقية بلفاست (اتفاقية الجمعة العظيمة) إعلانا بهزيمة، أو تخليا عن حق. ولم يكن التزام المؤتمر الوطني لجنوب افريقيا بوقف الكفاح المسلح تخليا عن النضال ضد التفرقة العنصرية، أو ركوعا لحكم استبداد الأقلية البيضاء. إن البندقية تظل هوية المناضل حتى يحصل على حقه.
في أيرلندا الشمالية، وبعد ما يقرب من ثلاثة عقود من الكفاح المسلح ضد الوجود البريطاني، الذي تضمن أيضا عمليات عسكرية مؤلمة داخل إنكلترا، وافق الجيش الجمهوري الأيرلندي على الانتقال إلى النضال السياسي السلمي، لتحقيق هدف ضم الشمال الذي يمثل جزءا من المملكة المتحدة إلى جمهورية أيرلندا. وجاء هذا التحول في موقف الجيش الجمهوري الأيرلندي بعد التوصل إلى اتفاقية بلفاست للسلام المعروفة سياسيا باسم «اتفاقية الجمعة العظيمة» عام 1998. وبمقتضى الاتفاقية وافق الجيش الجمهوري على وقف إطلاق النار، ونزع سلاحه، والانتقال إلى النضال السياسي السلمي. وتضمنت الخطوط الرئيسية للاتفاقية: اعتراف الحكومة البريطانية سياسيا بحزب «شين فين» الجناح السياسي للجيش الجمهوري. وتجسد هذا الاعتراف عمليا بإشراك الحزب في حكم ايرلندا الشمالية، مع ضمان حقه في المنافسة السياسية في الانتخابات العامة والمحلية. كما وافقت الحكومة البريطانية على إصلاحات هيكلية دستورية وقانونية وتنظيمية وفي أجهزة الإدارة ومنها الشرطة. وبمقتضى الاتفاق تم إطلاق سراح السجناء، وتوقيع اتفاق لتقاسم السلطة بين الاتحاديين البروتستانت الموالين للمملكة المتحدة، والقوميين الكاثوليك المطالبين بانضمام أيرلندا الشمالية إلى جمهورية أيرلندا. وقد أشرفت لجنة دولية مستقلة على عملية نزع السلاح، وهي عملية تمت في إطار تفاهم سياسي كامل، ولم تحدث بسبب هزيمة عسكرية أو استسلام. وتقدم تجربة الانتقال من الكفاح المسلح إلى النضال السلمي ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا مثالا آخر، يبرهن على أن نزع سلاح تنظيمات المقاومة لا يمكن أن يتم إلا في سياق عملية سياسية ناجحة، تضمن أولا وقبل كل شيء إزالة محركات اللجوء إلى العنف للحصول على الحقوق القومية. في تجربة جنوب افريقيا ناضل حزب المؤتمر الوطني الافريقي وجناحه المسلح، ضد نظام الفصل العنصري (الديكتاتورية العنصرية)، باستخدام الأدوات النضالية كافة، بما فيها حرب العصابات والعصيان المدني وحملات المقاطعة الدولية. ومع تراكم نجاحات هذا النضال داخليا ودوليا، وافقت حكومة جنوب افريقيا على إطلاق سراح نيلسون مانديلا في عام 1990 في إطار عملية سياسية كبرى، تضمنت الاعتراف بالمؤتمر الوطني الافريقي، والبدء في الانتقال سلميا إلى نظام ديمقراطي متعدد الأعراق، يضمن المشاركة السياسة الكاملة غير المنقوصة لجميع المواطنين، وتم دمج قوات وأسلحة الجناح العسكري لحزب المؤتمر الوطني الافريقي مع قوات الدفاع الوطني الجنوب افريقية الجديدة. وكان من نتائج العملية السياسية إجراء انتخابات حرة ونزيهة عام 1984، وإصدار الدستور الجديد عام 1996 الذي أقر الحقوق السياسية الكاملة للأغلبية السوداء، وأنهى نظام التمييز العنصري. مرة أخرى، أثبتت تجربة جنوب افريقيا أن نزع السلاح ينجح عندما يكون جزءا من تغيير سياسي هيكلي يُعالج الأسباب الجذرية التي أدت إلى الكفاح المسلح. وأن عملية نزع السلاح نفسها كانت جزءا من عملية إعادة بناء الدولة الجديدة بدمج قوة وتسليح الجناح العسكري للمؤتمر الوطني الأفريقي إلى جيش جنوب افريقيا الجديد.
إن الحديث عن نزع سلاح حماس في إطار صفقة جزئية، أو هدنة مؤقتة هو عبث سياسي وخطأ استراتيجي فادح، يحقق لنتنياهو نصرا مجانيا على المقاومة، ويضيع كل تضحيات الشعب الفلسطيني منذ عشرينيات القرن الماضي حتى اليوم. وإذا كان الهدف الأسمى للعملية السياسية هو إقامة دولة فلسطينية، فيجب أن يبقى سلاح المقاومة جزءا من مكونات بناء هذه الدولة، وأن تكون كوادرها الإدارية جزءا من هذه العملية. ومهما كانت الخلافات الأيديولوجية والسياسية بين فصائل المقاومة في هذه المرحلة، فإن تفكيكها يمثل خسارة جسيمة للنضال الوطني الفلسطيني، لأنه يمزق وحدة النسيج الوطني والاجتماعي الفلسطيني.
حماية المدنيين
لا شك في أن جلسات الاستماع التي تعقدها محكمة العدل الدولية تمهيدا لإصدار حكم بشأن حرب التجويع الإسرائيلية ضد أهالي غزة، تمثل فرصة مهمة للدبلوماسية الفلسطينية والعربية والدولية، للتحرك على مسار إلزام إسرائيل بفتح أبواب دخول الإمدادات الإنسانية من الماء، والغذاء والدواء والوقود والكهرباء إلى غزة، وحماية المدنيين من الاستهداف بواسطة الهجمات الوحشية للقوات الإسرائيلية. ويجب أن يترافق هذا التحرك مع ضغوط تسبب خسائر مادية ومعنوية لإسرائيل. ولا شك أن قرار شركات «فيرجين أتلانتيك» البريطانية و»الخطوط الجوية التركية» وشركة «بيغاسو للطيران» بمقاطعة مطار بن غوريون، ووقف الرحلات إلى تل أبيب يمثل خطوة مهمة يمكن أن تحتذى من جانب شركات أخرى على مستوى المنطقة والعالم. لقد تحدثنا مرارا عن ضرورة استخدام الأوراق العربية الكثيرة في الضغط على الولايات المتحدة وإسرائيل، وليس لتضليل الشعب الفلسطيني، أو للضغط على المقاومة.