#شؤون فلسطينية

إبراهيم غوشة في سيرته “المئذنة الحمراء” .. أسمار بلا أسرار.!

صقر أبو فخر 3/11/2021

شرع مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات في بيروت، منذ فترة، في إصدار بعض السِيَر والمذكرات الفلسطينية على غرار “إلى المواجهة: ذكريات عدنان مسودي” (2013)، و”سيدي عُمر: ذكريات الشيخ محمد أبو طير” (2017)، و”موسى أبو مرزوق: مشوار حياة” (جزءان، 2019). واللافت أن مشوار حياة موسى أبو مرزوق احتوى، في جزئه الأول وحده، خمس مقدّمات لكل من شاكر الجوهري ويوسف القرضاوي وخالد مشعل وطارق السويدان وأحمد يوسف، فيما تضمّن الجزء الثاني أربع مقدّمات لكل من عزيز الدويك ومحسن صالح ومعن بشور وبلال خليل ياسين، أي ما مجموعه تسع مقدمات، وهذا تزيّد لا فائدة منه ولا طائل غير إرهاق القارئ وإثقال صفحات الكتاب بالكلام المعاد والمكرور. والمغرمون بالمقدّمات كمن يريد أن يلخّص قصة بوليسية، أو فيلم بوليسي، فيبدأ، أول ما يبدأ، بكشف القاتل؛ وبهذه الطريقة يقضي الراوي نهائيًا على التشويق والمتعة. 

أما سيرة القيادي السابق في حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، الراحل إبراهيم غوشة، الموسومة بعنوان “المئذنة الحمراء” (مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، بيروت، 2015، 375 صفحة) فهي تختلف، إلى حدٍّ ما، عما سبقها أو جاء بعدها من هذه السير والمذكرات. وكنتُ قرأت تلك السيرة باستعجال غداة صدورها، فلم تُثِر لديّ أي انطباع مميز، غير أن ما أصاب جماعة الأخوان المسلمين في العالم العربي من تحوّلات، دفعني إلى قراءة هذه “السيرة” ثانية، خصوصًا أن صاحبها توفي في عَمّان في 26/8/2021، وحظي بوداع ملائم. 

قوة الإثارة في السيرة الذاتية انفرادها بكشف الخبايا، وإزاحة الأستار عن الأسرار، والجرأة على الذات بالاعتراف، وتعرية النفس المتلبسة بالآثام أحيانًا .

قوة الإثارة في السيرة الذاتية انفرادها بكشف الخبايا، وإزاحة الأستار عن الأسرار، والجرأة على الذات بالاعتراف، وتعرية النفس المتلبسة بالآثام أحيانًا. وإذا لم تتضمّن أي سيرة، ذاتية أَكانت أم موضوعية، هذه العناصر البدهية، فإن قيمتها التاريخية تنعدم، وتصبح مثل المقالة التعليمية الطويلة التي تسرد وقائع معروفة. وفي هذا الحقل المعرفي، يفرِّق المؤرّخ الكبير كمال الصليبي السيرة الذاتية عن المذكّرات؛ فالسيرة لديه مصدر مهم من مصادر التأريخ، بينما المذكرات هي ما يتذكّره صاحبها فحسب. والحوادث التاريخية التي يرويها صاحب المذكّرات ليست ما وقع بالفعل، بل ما يتذكّره الشخص بعد زمن طويل. وما يتذكّره الانسان الفرد أمرٌ، وما حدث حقًا أمرٌ آخر (صقر أبو فخر، الهرطوقي الحكيم: حوار مع كمال الصليبي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2012، ص 65). وسيرة إبراهيم غوشة هذه ليست سيرة ذاتية بالمعنى العلمي لكلمة “سيرة ذاتية”، بل هي تذكرات، أو قصاصات من الذاكرة يرويها صاحبها حكايات موجزة ومختصرة، فهو حين يتحدّث عن الثورة الإيرانية، على سبيل المثال، كأنه يخبرنا عما جرى، ونحن نعرف ذلك بالتفصيل. وعندما يتكلّم على تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح أو على الوحدة السورية – المصرية يروح ساردًا الوقائع كأنه يحكي حكاية للصغار قبل النوم. 

أمتع ما في هذه المذكّرات ولادة كاتبها في حارة السعدية في القدس في سنة 1936 في منزل يقع داخل أسوار المدينة بالقرب من جامع ذي مئذنة مبنيةٍ بالحجر الأحمر، ولذلك سُمّيت “المئذنة الحمراء”. وهو يروي تفصيلات أيام طفولته بشغف، وكيف كان يلعب مع أقرانه لعبة “القلال” أو “القلول”. ولكن ما هي “القلال ” هذه؟ إنها البنانير في لغة بعض أهالي فلسطين. وفي بلاد الشام يسمّونها “الكِلل” وواحدتها “كِلّة” (وفي بعض أنحاء سورية تسمى الواحدة ماظ)، وكذلك لعبة “طقّو واجري” (وهي لعبة النبا في لبنان)، ولا ينسى لعبة “الفرارات” وصيد العصافير بـِ “النقيفة”. ويتذكّر إبراهيم غوشة في ألعاب طفولته كيف كان التلاميذ يتجمّعون في إحدى ليالي رمضان، ويطوفون بمنازل الحي وهم يهتفون: “علي قاعد عالمسطبة والدّكة مقصبة .. يا أهل البيت طعمونا”، فيأتي لهم أهل البيت بالمكسّرات (قضامة)، فينصرفون إلى منزل آخر… وهكذا (ص 20). لكن، ما لا يعرفه الراوي، على الأرجح، أن هذا التقليد الاحتفالي الرمضاني في القدس هو نفسه عيد البربارة في سورية ولبنان، وهو نفسُه ليلة القرقيعان في دول الخليج العربي، وهو نفسُه أيضاً احتفال الهالوين في الولايات المتحدة الأميركية، و”عشاء الميتين” في السودان، وليلة مولد الإمام الحسين في العراق، مع اختلافات طفيفة.

ليست سيرة ذاتية بالمعنى العلمي لكلمة “سيرة ذاتية”، بل هي تذكرات، أو قصاصات من الذاكرة يرويها صاحبها حكايات موجزة ومختصرة .

 مهما يكن الأمر، فإن هذه المذكّرات تتناول ذكريات صاحبها عن أيام النكبة في سنة 1948، وانتمائه إلى جماعة الأخوان المسلمين، واغتيال الملك عبدالله في المسجد الأقصى في سنة 1951، وعن حزب التحرير الاسلامي. ثم يتطرّق إلى سفره إلى مصر، ودراسة الهندسة في جامعة القاهرة، ونشاطه السرّي فيها، وتقويمه تجربة جمال عبد الناصر. وفي فصول لاحقة، يتناول سيرته العملية مهندسًا في الأردن والكويت، ثم علاقة الإخوان المسلمين بحركة فتح في طور تأسيسها ، ثم انصرافه إلى التفرغ في جهاز فلسطين، التابع للأخوان المسلمين الذي نبتت منه حركة حماس في ما بعد. ومع نهاية عرضه تلك الحقبة، تحوّلت مذكّراته إلى نوع من السرد المختزل والسريع للوقائع الجارية كالحوار مع حركة فتح في الخرطوم في سنة 1993، ومعارضة اتفاق أوسلو، وإطلاق الشيخ أحمد ياسين من السجن الإسرائيلي، ومحاولة اغتيال خالد مشعل في الأردن، ومشكلاته مع المخابرات الأردنية ومديرها الأسبق، سميح البطيخي، وتجربة السجن، واضطراره مع بعض الكوادر العليا في “حماس” إلى مغادرة الأردن إلى سورية حتى عودته إلى عمّان بالشروط الأمنية الأردنية. وتتوقف المذكرات في سنة 2007.

لا غراميات ولا مشاكسات ولا فكاهات 

تغيب عن هذه الذكريات مشاكسات الطفولة وأفانين الشباب ومغامرات الفتوة، وتصبح بلا رونق أو حبور، فلا وشيجة لابراهيم غوشة بالحب أو بالموسيقى والغناء، أو بالسينما وارتياد المقاهي، فكأنه مثل قدامى حركة القوميين العرب الذين أخذوا على أنفسهم عهودًا بعدم الجلوس في المقاهي والملاهي أو الاختلاف إلى دور السينما، وامتنعوا حتى عن الضحك أو معايدة الأصدقاء، واتفقوا على عدم الزواج قبل تحرير فلسطين. وقارئ هذه “السيرة” قلّما يتبسم؛ فلا مُلحٌ ولا فكاهات إلا ثلاثة فقط هي: ينقل صاحب السيرة أن الذين قاموا بانقلاب 8 آذار/ مارس 1963 في سورية لن يستمروا في السلطة لأن أحدهم اسمه الحريري والثاني الصوفي والثالث القطيني (ص 90)، أي أن أسماء هؤلاء الضباط تطابق خيوط النسج: زياد الحريري وراشد قطيني ومحمد الصوفي، مع أن من غير الضروري أن يكون القطيني من القطن، بل ربما من القطّين، أي التين. ويروي قائلاً إن بعضهم قَرَن جماعة الإخوان المسلمين بالحشاشين، لأن قائد الحشاشين اسمه حسن [أي الحسن الصبّاح الاسماعيلي]، واسم أهم اثنين من قادة الجماعة حسن أيضًا: حسن البنّا وحسن الهضيبي (ص 59). ويورد الكاتب حكاية عن الإيراني نواب صفوي، مؤسس جماعة “فدائيان إسلام”، أنه، في أثناء زيارته فلسطين، عَبَر خط الهدنة، واتجه نحو المواقع الاسرائيلية. وعندما لحق به مرافقوه وأمسكوا به ومنعوه من التقدم، قال لهم: أريد أن أذهب إلى عند اليهود حتى إذا قُتلتُ يثور الشعب الإيراني في سبيل القضية الفلسطينية (ص 55)، ولا ريب أن هذا الكلام عفوي، لكنه أهوج. 

تغيب عن هذه الذكريات مشاكسات الطفولة وأفانين الشباب ومغامرات الفتوة، وتصبح بلا رونق أو حبور.

لم تكن مدينة القدس، على الرغم من طغيان صفة القداسة عليها، مقدّسة تماماً؛ ففيها من ضروب اللهو ما لا يوصف، فضلًا عن دور السينما، أمثال أديسون والشرق وصهيون وعدن ورِكس وريجنت والنزهة. وكذلك عرفت القدس، مثل أي مدينة عربية أخرى، المقاهي مثل مقاهي زعترة وبرستول والهوسبيس وسمارة والباشورة وزحيمان والمستكلب وقليبو وجوهرية (غنّى فيه زكي مراد ورقصت فيه بديعة مصابني، والاثنان من أصل سوري). وكان من عادة الشبّان الأغنياء العازبين استئجار غرفةٍ يمضي فيها صاحبها العيّوق سهراته مع أصدقائه في الشرب والتدخين والعزف والاستماع إلى الموسيقى. والمعروف أن راغب النشاشيبي كان عازفًا هاويًا على العود، ولا يملّ من سهرات العزف والغناء (واصف جوهرية، القدس العثمانية في المذكرات الجوهرية: مؤسسة الدراسة المقدسية، القدس. ومؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 2003 و2005)، وكان ذلك كله تعبيرًا عن التحوّل إلى العصرنة أو إلى “الحداثة الوافدة” التي تمثلت في النوادي الرياضية والكورالات الموسيقية وفرق الرقص والمدارس المختلطة والسباحة، وتزامنت مع الهجرة من الحارات الداخلية إلى أحياء القدس الغربية، كالقطمون والطالبية والبقعة. أما إبراهيم غوشة فيكاد لا يعرف ذلك كله ألبتّة، ولم تلتقط عيناه قط تلك المشاهد الجذّابة والفائرة. ومن هنا، يبدأ تأسيس العقول؛ فلا عجب، والحال هذه، أن يصبح غوشة وأقرانه ضد الموسيقى والغناء (مزمار الشيطان)، ويكتفي بالأناشيد الدينية والحماسية بشرط ألا تصاحبها الآلات الموسيقية، وضد الاختلاط في المدارس وأماكن العمل، وضد “الحداثة” الغربية وضد العَلمانية وضد الديمقراطية وضد النصارى واليهود، وكل ما في حكمهم. ومن طرائف  هذه المذكّرات أن أربعة موظفين كانوا لدى الإخواني يوسف العظم عندما تسلم وزارة التنمية الاجتماعية في الأردن؛ رجلان وامرأتان، وكان كل موظف وموظفة يجلسان معًا في أحد المكاتب. وقد أمر يوسف العظم الموظفتين بالجلوس معًا، والموظفَين بالأمر نفسه. أما وزير التربية الإخواني، عبدالله العكايلة، فقد وضع برنامجًا للنشاط الرياضي خاصًا بالفتيات في المدراس، على ألا يشاهدهن الفتية (ص 178). 

طائفة مغلقة 

يلوح لي أن المقدسي، إبراهيم غوشة، بحسب هذه السيرة، لم يعرف القدس وأهلها وثقافتها وأجوائها تمامًا؛ فقد عاش بين كتب التاريخ والدين والفقه والشعر والسيرة (والهندسة لاحقاً)، وفي صفوف الإخوان المسلمين، ولم يمارس من هوايات الهواء الطلق غير الرياضة وصيد العصافير. وانغمر برسائل حسن البنا وكتاب “العدالة الاجتماعية في الاسلام” لسيد قطب، ولم يلوِ حتى على كتب خالد محمد خالد ذات الانتشار الكبير آنذاك. ويبدو أن حسن البنا وسيد قطب وعصام العطار ومصطفى السباعي وسعيد رمضان ومحمد عبد الرحمن خليفة وحسن الهضيبي وكامل الشريف وأسعد بيوض التميمي قد كفَوه عناء البحث والتفتيش والتقميش، والتصنيف والتصفيف، وصار بنضاله، من السادة والقادة وأصحاب السعادة، وصارت خطاه ثقيلة وعصاه صقيلة بعدما تَبع حكمة عمر بن عبد العزيز: مَن كانوا قبلكم أعلم منكم، فحفظ مُصنّف ابن رجب الحنبلي الموسوم بعنوان “فضل علم السَلَف على علم الخَلَف”.  

لم يعرف القدس وأهلها وثقافتها وأجوائها تمامًا؛ فقد عاش بين كتب التاريخ والدين والفقه والشعر والسيرة (والهندسة لاحقاً) .

واللافت في هذه السيرة أن إبراهيم غوشة وُلد في القدس في السنة نفسها التي وُلد فيها محمد أبو ميزر (أبو حاتم)، ودرسا معًا في المدرسة الرشيدية ثم في المدرسة المأمونية موقتًا، وعاشا الوقائع نفسها، وشاهدا حوادث التفجير ومعارك القتال في القدس، وانخرطا في الحياة السياسية، لكن في اتجاهين مختلفين؛ فقد أصبح أبو ميزر بعثيًا وغوشة إخوانيًا. وكان من بين معلمي محمد أبو ميزر عباس الكرد والشيخ عبد الرحيم مريش وهما من حزب التحرير الاسلامي، وكانا من أساتذة إبراهيم غوشة أيضًا، ومع ذلك لم يأتِ أي واحدٍ منهما على ذكر الآخر في سيرتيهما (راجع: محمد أبو ميزر، “الجذور والتراب”: حاوره صقر أبو فخر، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2020). ولا ريب عندي في هذا الشأن أن الإخوان المسلمين، مثلهم مثل أي جماعة عقيدية أخرى يعيشون كعائلة مغلقة، فهم يتزاورون ويترافقون في نزهات نهاية الأسبوع، كأنهم وحدهم لا علاقة لهم بما يدور حولهم في المجتمع الذي ينتمون إليه إلا ما كان مرتبطًا بعملهم السياسي والدعوي والخيري. وبهذا المعنى، تصبح الجماعة أشبه بفرقة أو مجتمع مغلق. وأكثر من ذلك، يصبح لأتباع مثل هذه الأحزاب شبكة علاقات اجتماعية، تغنيهم عن التواصل اليومي والدائم مع الآخرين؛ فلهم أنديتهم ومدارسهم ومستشفياتهم وأطباؤهم ومهندسوهم وسبّاكوهم وحتى شركات مقاولاتهم. وتصل الأمور إلى حد المظهر، فإذا شاهدتَ أحدهم عرفتَ انتماءه (…)،  وهذا ليس سلوك حزب سياسي، بل سلوك طائفة معزولة” (عزمي بشارة، في نفي المنفي، حاوره صقر أبو فخر، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2017، ص 274- 275). 

الكاتم الرسمي

أطلق بعضهم على إبراهيم غوشة لقب “الكاتم الرسمي لحركة حماس”، بدلًا من صفته المعروفة “الناطق الرسمي” لشدّة تحفظه وجدّيته. وعلى الرغم من هذا التحفظ، فإن غوشة يكشف وجود التنظيم العالمي للأخوان المسلمين الذي دأبت منظمات الأخوان في كل مكان على إنكاره إلا في ما عدا إفصاح هنا أو إيضاح هناك (ص 156)، ثم يميط اللثام عن أن ذلك التنظيم العالمي هو الذي أسّس “جهاز فلسطين” الذي منه انبثقت حركة حماس (160). ويفصح صاحب السيرة عن أن الأخوان المسلمين عقدوا مؤتمرًا في عام 1983 برئاسة المراقب محمد عبد الرحمن خليفة خُصّص لفلسطين، وأجروا تعديلاً على منطلقاتهم؛ فقد كانت منطلقاتهم تقول بأولوية الدولة الاسلامية، أي الخلافة، على الجهاد، فصار للجهاد الأولوية على الدولة. وهذا الكشف جيد جدًا بجميع المقاييس، حتى لو أن تلك المعلومات كانت متداولةً في الأوساط الاسلامية آنذاك، مع أنها لم تكن شائعةً في الميادين السياسية الأخرى. 

أطلق بعضهم على غوشة لقب “الكاتم الرسمي لحركة حماس”، بدلًا من صفته المعروفة “الناطق الرسمي” لشدّة تحفظه وجدّيته .

من الطبيعي والبدهي أن تأتي هذه السيرة ميّالة إلى الإخوان المسلمين جرّاء انتماء صاحبها، وأن تعكس آراءه بحكم تجربته في صفوف الإخوان؛ فصاحب المذكّرات ليس مؤرخًا كي يتحرّى الحقائق، بل انغمس في المواقف الأيديولوجية لمنظمته، وصبّ نقده على الآخرين، وتجنب كثيرين بوعي كامل، كالملك حسين على سبيل المثال. لكن هذه “السيرة” تعتورها ثقوبٌ كثيرة لا تجوز في ميدان التاريخ، مثل قيل وقال وسمعنا: قال لي والدي أنه سمع من بعض العلماء (ص 15)، وسمعتُ أن  (ص 38)، وقيل لي إن سعيد رمضان (ص 41)، وقيل إن مصطفى عشّو كان أعور (ص 44)، وسمعنا أن قاتل الملك عبد الله (ص44)، وقيل في إحدى المرات (ص133)، وقيل إن بعضهم كانوا يُقلَون في المقالي (ص 133)، ويُروى أن (ص 148)، ورُوي عن عدنان أبو عودة (ص 159)، وقيل إن وراء النقاط العشر الجبهة الديمقراطية (ص131) .. وهكذا. 

“قيل وقال” تُضعف القدرة البرهانية لهذه السيرة باعتبارها من مصادر التاريخ الفلسطيني الحي التي يمكن الرجوع إليها أو الاستئناس بها. ولعل عدم التحقق الذي وَسَم هذه السيرة جعلها ناقصة في أمور بدهية، فالمؤتمر الأول لطلاب الأردن في القدس (1953) غير مذكور في هذه السيرة، وكذلك استشهاد رجاء عماشة أمام القنصلية التركية في حي الشيخ جرّاح في إحدى التظاهرات الكبرى احتجاجًا على زيارة الرئيس التركي، جلال بايار، الأردن، مع أن رجاء كانت طالبةً في المدرسة المأمونية حيث كانت شقيقة إبراهيم غوشة تعمل مدرّسة. ولا وجود في السيرة لأي التفاتٍ إلى الموضوعات السياسية والفكرية التي شغلت أذهان جيل الثورة الشعبية الفلسطينية المسلحة التي أطلقت حركة فتح رصاصتها الأولى، مثل الدولة الديمقراطية والدولة الواحدة ثنائية القومية وحل الدولتين والعمليات الخاصة (خطف الطائرات) وقتال المدنيين الاسرائيليين، وخطاب ياسر عرفات في الأمم المتحدة (1974)، وحتى المطران هيلاريون كبوجي غائب تمامًا عن صفحات هذا الكتاب. 

ملاحظات ومآخذ على المحتوى 

(1): يقول كاتب السيرة إن حسن البنا استشهد اغتيالاً على أيدي عملاء الملك فاروق (ص 173)، وهذا صحيح بلا شك. لكن لماذا اغتيل حسن البنا؟ لأنه، بكل بساطة، مسؤول بحكم موقعه عن اغتيال رئيس الوزراء المصري، محمود فهمي النقراشي، في عام 1948 انتقامًا لحلّ جماعة الأخوان المسلمين، فردّ النظام المصري باغتيال البنا، مع أن البنا نفسه قال عن الذين دبّروا عملية اغتيال النقراشي: “ليسوا أخوانًا وليسوا مسلمين”. لكن الذي أطلق النار على النقراشي يُدعى عبد المجيد أحمد حسن، وهو من الجهاز الخاص التابع للأخوان المسلمين. وقبل ذلك اغتال حسن عبد الحافظ ومحمود زينهم (السكرتير الخاص للمرشد حسن البنا) المستشار أحمد الخازندار. والجماعات التي تمارس الارهاب عليها أن تتوقع أن يكون إرهاب الدولة في المقابل أقسى وأشد. 

(2):  يصرّ الكاتب على أن الأخوان المسلمين كانوا أكبر جبهة شعبية أرسلت مجاهدين إلى فلسطين في سنة 1948 (ص 155). والحقيقة أن عدد المتطوّعين من الإخوان المسلمين في مصر وسورية والأردن وفلسطين وتونس وليبيا والمغرب والسودان واليمن بلغ 471 متطوعًا بحسب المؤرّخ عارف العارف في كتابه “النكبة” (مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، ثلاثة أجزاء، 2012)، وهذا عدد ضئيل جدًا لحركة كانت تُعدّ آنذاك نحو مليون عضو. والمعروف أن الفوج السوري بقيادة غسان جديد (الفوج العلوي) بلغ عديده 600 متطوّع، أي أكثر من عدد جميع متطوّعي الإخوان (راجع: هاني الهندي، جيش الانقاذ، دار القدس، بيروت، 1974، ص 63). وبلغ عدد متطوّعي المجموعة الشركسية السورية والمجموعة الأرمنية اللبنانية معًا 350 مقاتلاً (المصدر السابق نفسه، ص 63). وفاق عدد متطوّعي حماة وحدهم عدد متطوّعي الإخوان، ونقص قليلاً عدد متطوّعي جبل العرب بقيادة شكيب وهاب عن عدد متطوّعي الأخوان المسلمين. 

يصرّ غوشة على أن الإخوان كانوا أكبر جبهة أرسلت مجاهدين إلى فلسطين، والحقيقة أن عددهم كان ضئيلا.

(3): يورد صاحب السيرة: كان حكم عبد الناصر فرديًا وقمعيًا ومطارِدًا للحريات جميعها بما في ذلك حرية التعبير” (ص77). وهذا الكلام الثأري ينضوي لا في سياق استنطاق الوقائع التاريخية وتحليلها مجدّدًا، بل في سياق كراهية جمال عبد الناصر لأنه أعدم سيد قطب. والذين هاجموا ويهاجمون عبد الناصر وتجربته في الحكم، بسلبياتها وإيجابياتها، متذرعين بـِ “غياب الديمقراطية”، كانوا دائماً هم الإخوان المسلمون والشيوعيون، وأحيانًا حوب البعث. وهؤلاء في الأساس غير ديمقراطيين ألبتة (في ما عدا البعث في طوره الأول). ولنقض هذه الدعاية المزوّرة نروي هنا، من باب التذكير فحسب، أن توفيق الحكيم كتب في سنة 1959 رواية “السلطان الحائر” وهو انتصار للديمقراطية ونقد لعبد الناصر الذي كان منحه وسام الدولة في سنة 1958. وعلى غراره كتب يوسف إدريس “جمهورية فرحات”، ونجيب محفوظ “اللص والكلاب” (1960)، ودافع خالد محمد خالد عن حرية الفكر وحرية السياسة في كتابه “في البدء كانت الكلمة”، وعرض رشاد رشدي مسرحية “اتفرج يا سلام” عن بطش السلطات، وكتب عبد الرحمن الشرقاوي مسرحية “الفتى مهران”، وفيها هجوم على عبد الناصر لإرساله الجيش إلى اليمن، أما مسرحية “الدخان” لميخائيل رومان فصبّت نقدها على النظام السياسي برمته. وعلى هذا المنوال رواية “ثرثرة فوق النيل” لنجيب محفوظ الذي مُنح جائزة الدولة. وهؤلاء جميعًا، وغيرُهم بالطبع، لم يتعرّض لحرّيتهم أحد. غير أن روح الثأر ما برح مقيمًا، فيذكُر عبد القادر ياسين أن الشيخ أحمد ياسين قال لمندوب الحزب الشيوعي في قطاع غزة الذي عرض عليه فكرة انضمام الإخوان المسلمين في القطاع إلى جبهة وطنية فلسطينية، عقب هزيمة 1947 ما يلي: إن تلك الهزيمة هي ثأر لسيد قطب. وراح الإخوان آنذاك  يتباهون من فوق منابر مساجد القطاع بثأرهم الذي أُخذ من عبد الناصر (راجع: عبد القادر ياسين، حماس: حركة المقاومة الاسلامية في فلسطين، دار سينا للنشر، القاهرة، 1990). 

 (4): يقول الكاتب إن حزب البعث العربي الاشتراكي أيّد الانفصال في سنة 1961 (ص 76)، وأن ميشال عفلق وصلاح البيطار أيّدا الانفصال أيضًا (ص88). وهذا غير صحيح. لقد وقّع بيان تأييد الانفصال اثنان فقط من قادة “البعث”، أكرم الحوراني وصلاح الدين البيطار. وقد سحب البيطار توقيعه في اليوم الثاني فورًا، بعدما قرّعه ميشال عفلق، وندم على فعلته وبكى. أما أكرم الحوراني فقد فُصل من الحزب. وعن أسباب الانفصال، يقول صاحب “المئذنة الحمراء”: “حدثت بعض الاستفزازات الإقليمية بين بعض المصريين المتفرعنين وبين بعض السوريين الذين ثاروا بسبب الهيمنة المصرية على سورية” (ص 88). أَهذه هي حقًا أسباب الانفصال؟ ما هذه السذاجة السياسية التي تجعل أسباب حدثٍ خطير جدًا كفك الوحدة بين سورية ومصر مجرد خلافاتٍ بين أفراد من هنا وهناك على طريقة “لعبة الكلة” (القلال) التي أدّت، بحسب الخرافة اللبنانية، إلى حرب أهلية بين الدروز والمسيحيين في جبل لبنان في سنة 1840؟ ألم يصل إلى علم إبراهيم غوشة أن فك الوحدة كان عملية طويلة، موّلتها السعودية، وتولى الملك حسين ومعه محمد رسول الكيلاني تجنيد ضباط وسياسيين سوريين من صنف فيصل سري الحسيني وحيدر الكزبري وخلوصي الكزبري ومأمون الكزبري وأكرم سري الحسيني وعبد الغني دهمان وموفق عصاصة، وأشرفت CIA وMI6  وكمال أدهم على إدارة العملية؟ فالوحدة كانت تشكل خطرًا داهمًا على المصالح الأميركية والبريطانية، وعلى إسرائيل والعروش في السعودية والأردن. وإزالة الوحدة كانت تحقق تلك المصالح، وتزيح الخوف عن قلوب راجفة، وهذا ما جرى. 

يورد صاحب السيرة: كان حكم عبد الناصر فرديًا وقمعيًا ومطارِدًا للحريات جميعها.. وهذا الكلام الثأري ينضوي في سياق كراهية عبد الناصر لأنه أعدم سيد قطب .

(5): ورد في الصفحة 65 اسم “الرابطة الفلسطينية “، وفي الصفحة 69 “اتحاد الطلاب الخرّيجين الفلسطينيين”، وذكر الكاتب إن الروابط في القاهرة كان معظمها تحت قبضة الأخوان المسلمين (ص 65- 66). أولاً ليس الاسم الصحيح هو “الرابطة الفلسطينية” بل “رابطة الطلبة الفلسطينيين”، وليس “اتحاد الطلاب الخرّيجين الفلسطينيين” بل “رابطة الخرّيجين الفلسطينيين” التي أسّسها ياسر عرفات فور تخرّجه في جامعة القاهرة. وقد كان لطلاب الأخوان المسلمين، ثانيًا، حضور مهم في الروابط الطالبية، لكنهم لم يسيطروا عليها ألبتة. ففي آخر هيئة إدارية للرابطة كان للإخوان ممثل واحد هو علي ناصر ياسين، وللقوميين العرب اثنان، باجس إسماعيل وفيصل كنعان، وللمستقلين واحد هو علي عكيلي، ولحزب البعث أربعة، ناهض الريس وزهير الخطيب ومحمد أبو ميزر وعاصم خليفة، وترأس الرابطة زهير الخطيب. وأول هيئة إدارية للاتحاد العام لطلاب فلسطين ترأسها زهير الخطيب (بعثي)، وكان في عضويتها من البعثيين هشام الشريف ولطف غنطوس وتحسين الشخشير ومازن الأنصاري. ولم يُقصَ البعثيون عن الاتحاد، إلا بعد أن صعدت حركة فتح وتحالفت مع القوميين العرب ومجموعة عبد الله الريماوي، البعثي المتحول إلى الناصرية التي كان من بين أعضائها محمد صبيح. وبطبيعة الحال، كان طلاب الأخوان يُنتخبون إلى الهيئة الإدارية للرابطة وللاتحاد في ما بعد، أمثال فتحي البلعاوي وغيره، لكن الروابط لم تكن في أي يوم تحت قبضة الإخوان المسلمين أصحاب النفوذ في جامعة الأزهر بالدرجة الأولى. لكن “البعث” كان له الثقل الأكبر في جامعة القاهرة، وتقاسم البعث والقوميون العرب الأرجحية في رابطة بير وت، فيما كان “البعث” هو الراجح في رابطة دمشق. 

(6): يذكر ابراهيم غوشة أن الإخوان المسلمين الموجودين في الكويت كانوا يُنفقون على نشرة “فلسطيننا” التي أصدرتها حركة فتح في بيروت (ص 69). وفي هذا الكلام افتئات على الواقع، حيث أن “فتح” نفسها هي التي كانت تنفق من أموالها إلى إصدار مجلة “فلسطيننا – نداء الحياة”. أما أموال الحركة فجاءت من مصادر متعدّدة؛ من إسلاميين أثرياء وغير إسلاميين، أمثال يوسف بيدس (مسيحي) وطلعت الغُصين ويعقوب الغصين وهاني القدومي وعبد المحسن القطان وهاني أبو السعود وموسى حمدان، وجميعهم فلسطينيون، ومن الكويتيين عبد العزيز الشايع ويوسف الفليج وخالد الزيد والشيخ عبد الله المبارك الصباح، ومن القطريين الشيخ سحيم بن حمد آل ثاني، والشيخ ناصر بن حمد آل ثاني والشيخ ناصر بن خالد آل ثاني وعبد الله عبد الغني وهو من كبار التجار. 

(7): في استعادة لما حدث في سبتمبر/ أيلول 1970 بين الفدائيين والجيش الأردني، يقول: “نحن الأخوان المسلمون كنا ضد هذا القتال، لأننا نعتقد من منطلق شرعي أنه لا يجوز للمسلم أن يقتل المسلم والفدائي مسلم والجندي [الأردني] مسلم” (ص 112). وليس لدي غير قولين في هذا الشأن أولهما: حبّذا لو طبقت حركة حماس هذا الكلام في قطاع غزة في 14/6/2007، وثانيهما اضطراري إلى إعلاء الصوت بالمجدلة (المجد لله) والسبحلة (سبحان الله) والحيعلة (حي على الصلاة) لأن صاحب السيرة يبرّر ما فعلته حماس في انقلابها الدامي في غزة بـأنه “رد فعل على اضطهاد فتح لحماس وتآمر مجموعة دحلان والجنرال دايتون” (ص 341). ما باله ينسى ما اعترف به محمود الزهّار نفسه لقناة العربية (6/7/2007) بقوله إن حركة حماس بدأت التحضير للسيطرة على غزة في سبتمبر/ أيلول 2006، وأنها وضعت خطةً للاستيلاء على الأجهزة الأمنية ومقرّاتها، وأنها حفرت أنفاقًا تحت مقرّات تلك الأجهزة، ومنها مقرّ الأمن الوقائي في خان يونس (راجع: مجلة “الحرية”، 15/7/2007)، أي أن “حماس” كانت، منذ البداية، لا ترغب في الشراكة مع حركة فتح، بل الاستفراد بقطاع غزة خالصًا لها وحدها. وفي أي حال، احتكمت حركة فتح إلى صندوق الاقتراع، فيما احتكمت حركة حماس إلى صندوق الذخيرة، وشتّان ما بين المسلكين. وفي سياق موازٍ، كم كان صاحب السيرة ناعمًا حين قال إن الفدائيين خرجوا من عمّان وذهبوا إلى الأحراج في منطقة دبين وعجلون، ومكثوا حتى أواخر سنة 1971 ثم سُمح للفصائل الفدائية أن تنسحب إلى سورية” (ص114). هكذا إذاً .. ذهبوا ومكثوا وانسحبوا، مغمضًا عينيه بكلتا يديه على المعارك الطاحنة في جرش وعجلون التي أرغمت الفدائيين بقوة الحمم على الانسحاب إلى سورية قسرًا.

تبرهن طريقة التفكير لدى الراحل ابراهيم غوشة، كما تظهر بين صفحات هذه السيرة، أنها مجافية للعلم ومجانبة للحق .

(8): لا يتورّع الكاتب عن القول “ما لدى ياسر عرفات لا يقل عن خمسة مليارات دولار، وحتى هذه اللحظة لا أحد يعرف مصير هذه الأموال. وأسرار أمواله، وهي أموال الشعب الفلسطيني، ما زالت غامضة” (ص322). وهذا الكلام هراء، وبرهنت الأيام فساده، وبات من المعروف بالتفصيل أن الشائعات في شأن أموال عرفات انطلقت مرّة واحدة، وانفجرت في وجهه بعد ضبط السفينة كارين A في البحر الأحمر في 3/1/2002، والتي كانت محمّلة أسلحة لمصلحة حركة فتح. وعلى الفور، بدأ قسم الحرب النفسية في الموساد LAP في صوغ تقرير عن الفساد في منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح. وسرّب الموساد ذلك التقرير إلى صحيفة الأهرام المصرية التي نشرته بكل غباء. ثم نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت في 1/6/2002، في السياق الاستخباري نفسه، تقريرًا عن قصص الفساد الفلسطيني، واستقى كُتّاب الفضائح الفلسطينيون والعرب موضوعاتهم الهذيانية في هذا الشأن منه، وتبيّن في ما بعد أن تلك التقارير صاغها الموساد، وتلقفها فلسطينيون “مهابيل”، وراحوا ينشرونها هنا وهناك. ومن خرافات تلك الحقبة حكاية 300 مليون دولار  التي حُولّت إلى حسابات ياسر عرفات في بنك لومبارديا في سويسرا، وكانت الغاية هي تشويه سمعة عرفات استعدادًا لاغتياله. وقد ضحك كثيرًا من هذه الحكاية كل مَن يعرف، ولو مقدار خردلة، بدهيات علم الاقتصاد والمال والمصارف، وهزئ من تلك القصص الرثّة آخرون وغيرهم، فبنك لومبارديا دولي ذو سمعة ممتازة، وهو يراقب الإيداعات التي تصب فيه بدقة شديدة، ولا يسمح بأي تحويلاتٍ مالية غير سليمة. ولخيبة أولئك الثرثارين، أصدرت لجنة تحقيق مالية تابعة للاتحاد الأوروبي تقريرًا في سنة 2004 جاء فيه أن الأموال التي تسلمتها السلطة الفلسطينية صُرفت بصورة شرعية. وأكدت شركة ستاندارد آند بورز، العالمية المتخصصة بتدقيق الحسابات ومراقبة الأوضاع المالية للدول، أن استثمارات السلطة الفلسطينية تُدار بطريقة مهنية. واليوم، بعد 17 سنة على رحيل الشهيد ياسر عرفات، لم يتبيّن على الإطلاق أن له حسابات مالية خاصة. وكثيرًا ما تحرّق قادة الموساد والمخابرات الأميركية وفلسطينيون أيضًا لمعرفة ولو مجرد خبر واحد يدين عرفات في ذمته المالية. ولو وُجدت حقًا مثل تلك الحسابات لكانوا فرحين جدًا بفضحها. وبهذا المعنى، جميع الذين أشاعوا قصص الأموال الهائلة التي امتلكها عرفات، ومنها حديث الخمسة مليارات دولار، كانوا ينفذون بوعي، أو بسذاجة، ما أراده الموساد بالتحديد. 

 (9): تبرهن طريقة التفكير لدى الراحل ابراهيم غوشة، كما تظهر بين صفحات هذه السيرة، أنها مجافية للعلم ومجانبة للحق، فهو يعتقد أن عملية 11/9/2001 في نيويورك خطّطها المحافظون الجدد في سياق خطّة لاكتساح العالم الاسلامي (ص 308)، وأن الموساد بالتعاون مع المحافظين الجدد يقف وراء العملية، ومن المستبعد كثيرًا أن تكون إحدى مجموعات أسامة بن لادن هي التي نفذّت العملية (ص 309). حسنًا، انتهى زمن المحافظين الجدد منذ 12 سنة، فأين المخطط؟ والغريب أن صاحب المذكّرات لا يعير أي اهتمام لاعتراف بن لادن نفسه عن العملية، حين قال: “إن الله سبحانه وتعالى وفّق كوكبة من كواكب الاسلام، وطليعة من طلائع الاسلام، وفتح الله عليهم فدمّروا أميركا تدميرًا” (أنظر: قناة “الجزيرة”، حديث مصوّر لأسامة بن لادن، 7/10/2001). وهكذا يصبح إبراهيم غوشة مثل فهمي هويدي الذي تجرأ على الحقيقة الساطعة بقوله إن “الموساد” هو من يقف وراء تلك العملية (صحيفة الوطن الكويتية، 25/9/2001)، ومثل مصطفى محمود الذي زعم إن السبتيين هم الذين فجّروا البرجين في نيويورك (“الأهرام”، 22/9/2001)، ولا أدري كيف خطرت في باله حكاية السبتيين هؤلاء، ومثل محمد حسنين هيكل في إحدى  سقطاته العجيبة، حين ادّعى أن القوميين الصرب هم وراء تفجير برجي نيويورك انتقامًا من أميركا جرّاء ما فعلته بيوغوسلافيا (مجلة “الكتب: وجهات نظر”، القاهرة، أكتوبر/ تشرين الأول 2001). وعلى هذا المنوال، يعتقد إبراهيم غوشة أن “الموساد” هو الذي يقف خلف اغتيال رفيق الحريري.

لم يعرض الكاتب أي مراجعة لعلاقة الأخوان المسلمين التاريخية بالدولة البريطانية وبالولايات المتحدة .

(10): تحدّث صاحب السيرة عن بعض زياراته إلى اليونان وإسبانيا وتركيا، فقال إن الاستعمار انتزع اليونان من الدولة العثمانية (ص 148)، واستغرب كيف تحوّل عدد من الكنائس في طليطلة وإشبيلية وغرناطة إلى كنائس (ص 150)، وقرن ذلك بما فعله أتاتورك حين حوّل مسجد آيا صوفيا إلى متحف (ص 151). والمعروف أن تحويل المساجد إلى كنائس في شبه الجزيرة الإيبيرية غداة ما تسمّى “حرب الاسترداد” كان قائمًا على قدم وساق وبصورة همجية. لكن التاريخ القديم كله على هذا الغرار. والتاريخ الحديث أيضًا. ففي قبرص الشمالية التي يحتلها الأتراك اليوم حوّلوا الكنائس القوطية الجميلة إلى مساجد بعد تكسير صلبانها المحفورة في حجارة المداخل، وقد شاهدتُ ذلك في كيرينيا وفماغوستا. وكنيسة آيا صوفيا كانت كنيسةً بيزنطيةً في الأصل بحسب اسمها، ثم صارت مسجدًا بعد الفتح التركي للقسطنطينية، ثم جعلها مصطفى كمال (أتاتورك) متحفًا لحل النزاع عليها بين المسيحيين والمسلمين. وها أردوغان يعيدها مسجدًا. وعلى غرارها جامع بني أمية الكبير في دمشق، وهو أعظم مساجد العرب؛ فهو في الأساس كنيسة يوحنا المعمدان، وما زال جرن العمادة والبوابة المشجّرة وهيكل الكنيسة الأصلية قائمًا. ثم إن اليونان لم ينتزعها الاستعمار من الدولة العثمانية قط. لقد استقلت عن الدولة العثمانية في سنة 1832 بعد ثورة وطنية اندلعت في سنة 1821 ضد السيطرة التركية. واليونان أمة عريقة قائمة بذاتها سقطت بلادها في أيدي الأتراك بُعيد سقوط القسطنطينية في عام 1453، وكان لا بد لها أن تتحرّر في النهاية.

 (11): يقول إبراهيم غوشة إن الطيارين السوريين الذين هبطوا بالمظلات في حرب 1967 كانوا من المعلمين، ولم يكونوا من ضباط الطيران المحترفين (ص 104). يدعونا هذا الكلام إلى الاستلقاء على الظهر. معلمون يقودون طائرات حربية؟ إما إنها عبقرية سورية لم يشهد لها التاريخ المعاصر مثيلًا، أو خرافة مسلية. ويدلّ هذا الأمر على مستوى المعلومات التي كانت منتشرة في صفوف الفئات المتعلمة من الإخوان المسلمين. معلم مدرسة ابتدائية ويقود طائرة حربية؟ أصل الحكاية هذه هو التالي: جميع السوريين، كما هو معروف، يخضعون للخدمة العسكرية الالزامية الموقتة، ويُمنحون رتبًا في الاحتياط بعد نهاية خدمتهم بحسب شهاداتهم. ومَنِ كان يحمل البكالوريا أيام زمان كان يُلحق بالكلية العسكرية ويتخرّج ملازمًا، ثم يتابع خدمته حتى تسريحه. وإذا استُدعى لاحقًا إلى الخدمة الاحتياطية يصبح ملازمًا أولَ. وحين وقع انقلاب 8 آذار/ مارس 1963 سُرّح ضباطٌ كثيرون من أبناء العائلات، ومن غير الموالين للحكم الجديد، خصوصًا بعد التمرّد الفاشل الذي تزعمه العقيد جاسم علوان. وصار ثمّة نقص في عديد الضباط الصغار (الأعوان)، فاستدعت القيادة العسكرية الجديدة ضباط الاحتياط من رتبة ملازم، ومعظم هؤلاء كانوا من معلّمي المدارس ممن خضع لدورة محدودة الزمن في الكلية العسكرية، كالمشاة وقوات البر، لكن من المحال تسليمهم الطيران، لأن قيادة الطائرة تحتاج إلى تدريب لا يقلّ عن أربع سنوات، وهذا كان معروفًا جيدًا. أما أن يتمكّن معلم مدرسة مرّ بالكلية العسكرية في أثناء خدمته الإلزامية من قيادة طائرة حربية فهذا خبال خالص. مَن يقود سيارة يمكنه، في حال الطوارئ، أن يقود شاحنة عسكرية. لكن هل يستطيع معلم مدرسة أن يقود طائرة حربية؟ هذا والله من معجزات المخيال الأخواني. 

حكمة السنين 

مثل كل سيرة أو مذكّرات يتوقع الواحد منا أن يعثر على خلاصاتٍ تنتمي إلى حكمة السنين، وإلى مآلات التجربة الممتدة. غير أن صاحب “المئذة الحمراء” لم يقدّم لنا أي نقد لتاريخ جماعة الإخوان المسلمين، وهو تاريخ حافلٌ بالوقائع والحوادث والتجارب والخيبات والتقدّم والتراجع، وكثيرًا ما تعرّض الإخوانيون وجماعة الأخوان للمساءلة النقدية على ألسنة أخوانيين بارزين وبأقلامهم. وعلى هذا النحو، لم يقدم الكاتب أي نقد لتجارب الجماعة في مصر والأردن وفلسطين وسورية، بل تحاشى ذلك بصورة جلية تمامًا، ولم يعرض علينا أي رؤية سياسية تجيبنا عن سؤال قديم هو: لماذ قبع الأخوان المسلمون الفلسطينيون بلا أي جهد يذكر بين 1950 (تاريخ ضم الضفة الغربية إلى إمارة شرق الأردن) و1968 (معركة الكرامة)، بل تحالفوا دائمًا مع النظام الهاشمي؟ وظلوا منذ 1957 (الانقلاب على حكومة سليمان النابلسي الوطنية) حتى عام 1989، أي طوال 32 عامًا، على وفاق تام مع الحكم الأردني؟ وكنتُ أتطلع إلى جوابه عن مغزى  الموقف الشقي الذي اتخذه الإخوان المسلمون في العراق التعاون مع الاحتلال الأميركي، فيما اتخذ الإخوان في مصر، وفي غيرها، الموقف النقيض؟ وقد توقف الكاتب عند سنة 2007 ربما ليجنّب نفسه عثار الخوض في التحولات التي خضعت لها حركة حماس منذ ذلك الوقت، كالاعتراف الموارب بحدود عام 1967 على غرار ما كرّره رئيس المكتب السياسي السابق، خالد مشعل، وغيره مرارًا: “إذا قبلت إسرائيل بحدود ما قبل 1967 نقبل بها (…). ونحن كفلسطينيين ارتضينا سقفًا وطنيًا سياسيًا هو دولة على حدود الرابع من حزيران 1967، وإسرائيل كيان موجود كأمر واقع (…). وهنا لا بد من إيضاح حقيقة مهمة وهي أن القبول بحدود عام 1967 يعني اعترافًا بوجود دولة إسرائيل” (خالد مشعل، مجلة “المشاهد السياسي”، لندن، مقابلة، 18/3/2007). وقد بلغت تلك التحوّلات الذروة في الوثيقة السياسية لحركة حماس التي أُذيعت في 1/5/2017، وجاءت نَسْخَاً للميثاق الوطني الفلسطيني الصادر في سنة 1968. ومن عقابيل تلك التحوّلات أن “حماس” انتقلت من الكلام على أن فلسطين وقف اسلامي من النهر إلى البحر إلى القبول بحدود 1967. وأبعد من ذلك، لم يعرض الكاتب أي مراجعة لعلاقة الأخوان المسلمين التاريخية بالدولة البريطانية وبالولايات المتحدة، ولا سيما اتصالات سعيد رمضان بجيفرسون كافري في خمسينيات القرن المنصرم، وتعاونهم مع الدولتين لمواجهة الشيوعية والقومية العريبة، تطبيقًا لنظرية جون فوستر دالاس في شأن تبنّي الأديان لمواجهة الشيوعية.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى