ترجمات أجنبية

أيون – ما وراء الإسلام الليبرالي : الليبرالية الغربية ليست قمة التاريخ البشري ونهايته، ولا ينبغي أن تُعامل كمعيار للإسلام

أيون – زاهير كاظمي* – 21/12/2017
إننا نعيش في عالم ليبرالي. وببعض المعاني، تتمتع الليبرالية بانتصار عالمي. وحتى خصومها يقيمون قضيتهم غالباً في الأساس على المثل الليبرالية الأساسية لمجتمع قائم على الحريات السياسية أو التجارة الحرة، من أجل تعظيم الحرية الفردية وتحقيقها إلى أقصى حد ممكن. وفي التفاصيل الحيوية، تأتي الليبرالية متنكرة في العديد من الأشكال. وباعتبارها أساساً للثورة أو القابِلة لولادة الإمبراطورية، شكلت الليبرالية على مدى القرنين الماضيين الكيفية التي نرى بها أنفسنا والعالم.
في حين أن الإمبراطوريات الأوروبية ربما ارتدَت الليبرالية على صدرها مثل شارة للحضارة، فقد كانت القيم الليبرالية تُعتنَق في كثير من الأحيان بقوة أكبر في الأراضي التي استعمرتها هذه الإمبراطوريات، بما فيها العالم المسلم. وكانت النقاشات حول “الإسلام الليبرالي” قديمة بقدم أيديولوجية الليبرالية نفسها تقريباً. ومنذ حركة “عليكرة-Aligrah” في الهند البريطانية في القرن التاسع عشر، وحتى أيديولوجية النهضة في العالم العربي، سعى المسلمون إلى توليف الإسلام مع الليبرالية من أجل تعزيز التقدم الحضاري للإسلام.
ربما يكون الغرب “المسيحي” قد أسس مجتمعات ليبرالية، لكنه ناضل من أجل إنتاج مواطنين ليبراليين. فالحركات الفاشستية المنبعثة في أوروبا وأميركا الشمالية اليوم، والساعية إلى تقييد حريات الآخرين، هي حركات مسيحية وحركات هوية غربية بامتياز. ومن ناحية أخرى -ولأسباب تاريخية إلى حد كبير أكثر من كونها ميتافيزيقية- كافح المسلمون لإقامة دول ليبرالية أيضاً. ومع ذلك، كان المسلمون عموماً في مجتمعات الغرب مواطنين نموذجيين، يعون حقوقهم ويسعون إلى تحقيق مصالحهم بدلاً من التركيز على اضطهاد الآخرين. فلماذا إذن يمكن أن تبدو مشاريع الليبراليين المسلمين -الذين يرون الليبرالية في الإسلام- خيالية ومفرطة في المثالية؟
لا يرى الإصلاحيون المسلمون الليبراليون أي تعارض بين الإسلام وبين الالتزامات الليبرالية الجوهرية بالحرية، والتسامح، وحقوق الإنسان وحكم القانون. صحيح أن الكثير منهم ربما لا يدافعون عن دولة علمانية بحتة. ولكن، ليس ثمة ما هو استثنائي في ذلك. فمواقف الكثير من الليبراليين الهندوس واليهود والمسيحيين تسمح أيضاً بأنواع مختلفة من اعتراف الدولة أو دعمها للجماعات والقيم الدينية. ويتكون الليبراليون المسلمون من مجموعة مختلطة بالمثل، من المفكر المصري المقيم في قطر، يوسف القرضاوي، إلى إد حسين ومجيد نواز، مؤسسي “مؤسسة كواليام”، المركز الفكري البريطاني المناهض للتطرف. وعلى الرغم من اختلافاتهم، فإنهم يتقاسمون التحديات الأساسية التي تقف أمام ازدهار أجنداتهم. ولطالما كان المنتقدون يشخصون هذه التحديات بأنها طريقة لتسليط الضوء على ما يُفترض أنه تخلُّف الإسلام المتأصل، ومعاداته للغرب، وحضور رغبة في المجتمعات المسلمة بإحياء رؤية مثالية معينة لمجد العصور الوسطى. ومع ذلك، فإنه قطعاً إسلام الدولة القومية، وليس إسلام الخلافة، هو الذي يطمح إليه المسلمون الليبراليون.
بالنسبة للمصري سيد قطب، والهندي أبو العلاء المودودي -ربما أكثر المفكرين الإسلاميين تأثيراً في أواسط القرن العشرين- فإن لسيادة الله الأسبقية على سيادة الناس. وفي رؤيتهما اللاهوتية للعالم، فإن التسوية العلمانية مع الإرادة العامة مستحيلة. وبدلاً إرادة الناس، قام المفكران ببناء سياساتهما حول إرادة الله، ونحتا مصطلحات جديدة مثل “الجاهلية” و”الحاكمية” لتجسيد رؤاهما السياسية. وبالمساواة بين الجاهلية والفراغ الروحي للثقافة الغربية العلمانية، وإبراز التناقض بين الحاكمية وبين تخويل الديمقراطية الليبرالية بالسلطة الإلهية، ساعد فكر قطب والمودودي في تشكيل الحركات الإسلامية في أنحاء العالم. وقد تطورت بعض هذه الحركات، مثل جماعة الإخوان المسلمين، في اتجاه القبول بممارسات مؤسسية رئيسية للديمقراطيات الليبرالية -مثل إجراء الانتخابات العامة وتحرير الاقتصاد- في حين قبِل المسلمون في الغرب إلى حد كبير بمعايير المواطنة الليبرالية. لكن القضية المحيرة لسيادة الله ما تزال بعيدة عن الحسم في سياسات الإسلام. وما يزال الإبحار في متاهات الليبرالية يشكل مصدر قلق.
ما تزال أشكال الإسلام غير السياسية قائمة. ويشمل ذلك السلفيين غير العنيفين “الأكثر هدوءاً”، الذين يُظهرون رفضهم لما يعتبرونه أنظمة غير إسلامية ببساطة عن طريق البقاء بعيداً عن السياسة. ومن المثير للاهتمام ملاحظة أن اختيارهم عدم الانخراط يضعهم، إلى جانب بعض المواطنين الآخرين من غير المسلمين، ضمن المثال الليبرالي المألوف لفصل الدين عن السياسة. وبرفضهم المشاركة بنشاط في طقوس الديمقراطية الليبرالية، مثل الانتخابات، فإنهم يتقاسمون أيضاً مع بعض الليبراليين الغربيين وجهة النظر القائلة إن الآليات الإجرائية لهذه الدول جوفاء وتفتقر إلى الشرعية. ومع ذلك، تنبع اعتراضات هؤلاء السلفيين من كون الدولة لا تعترف بالله، وليس لأنها غير ليبرالية بما يكفي.
كما أن التيارات المناهضة للسياسة ما تزال مستمرة في الحركات الاحتجاجية في مختلف أنحاء العالم المسلم ضد كل من النزعات المركزية للأحزاب السياسية، وضد تجاوز الأيديولوجيات النيو-ليبرالية. وقد عُرِضت هذه الأشكال من المعارضة في احتجاجات الشوارع في منتزه غازي في ميدان تقسيم التركي في العام 2013، وكذلك خلال “الربيع العربي” (2010-12). وبطريقة تشبه ببعض الطرق أساليب الفوضويين والوضعيين في التحشيد، وقفت هذه الاحتجاجات ضد الليبرالية الغربية -في شكل العولمة النيوليبرالية- وضد استبداد الدولة، والإسلاميين وغير ذلك.
بأحد المعاني، تبقى الليبرالية الغربية حتمية لا مفر منها. وتروق الانتقادات الموجهة إلى الليبرالية، بما فيها مشاريع “ما-بعد-الكولنيالية” و”النظرية النقدية” لمفكرين إسلاميين بارزين، ممن يأتون هم أنفسهم من داخل التاريخ الفكري الغربي. كما صبغت هذه العلاقة الطُفَيلية الطريقة التي يُصنَّف وفقها المفكرون الإسلاميون في بعض الأحيان -من قراءة المنظِّرة السياسية روكسان أيوبين لسيد قطب في كتابها “العدو في المرآة” (1999)، الذي يضع فهماً لـ”أصوليته” في مقابل حدود نظريات المعرفة العقلانية الغربية، إلى كتاب المنظر القانوني وائل حلاق “الدولة المستحيلة” في (2012)، الذي يعتمد في جزء منه على رصد التشابه بين المنظرين النقديين الغربيين وبين الإسلام ما-بعد-الكولونيالي، لاستعادة المساهمات الإسلامية المميزة إلى السياسة المعاصرة.
تظهر المخاوف الكامنة إزاء تعريف شكل من الإسلام الأصيل في النقاشات العامة حول المفاهيم المتنافسة للإسلام “المعتدل” و”المتطرف”. وفي حين أن التمييز يكتسب طاقة حقاً بسبب مخاوف الدول الغربية على سياساتها الداخلية، فإنه يحتوي في جوهره أيضاً على أسئلة أعمق حول الليبرالية -بمعنى، كم هم المسلمون “أحرار” في أن يكونوا مسلمين؟ وفي مناخ التحسب الراهن في الغرب، نرى نظريات المؤامرة وهي تدخل التيار السياسي السائد، وتعمل على تغذية اتجاهات الخوف من الإسلام وإحياء مخاوف حقبة الحرب الباردة من “التخريب”.
في المملكة المتحدة، يبدو أن الفكرة الناشئة عن “التطرف غير العنيف” تهدد تجريم الأفكار وعناصر الهوية. و”التطرف غير العنيف”، في إطار سياسة الحكومة، هو السلوك الذي لا يؤيد الإرهاب، لكنه يتعارض مع “القيم البريطانية” من التسامح، والحرية، وحقوق الإنسان وحكم القانون. وهو مصطلح سيئ التعريف وغير محدد المعالم، ويشمل أشياء مثل الزواج القسري والعنصرية -والتي لا تبدو صلتها بالإرهاب واضحة.
تجسد فكرة “التطرف غير العنيف” البريطانية الطريقة الثنائية التي غالباً ما يتم وفقها تأطير مناقشات الإسلام في كثير من الأحيان الآن -حيث يُنظَر إلى المسلمين على أنهم إما ليبراليون أو يتجهون إلى التشدد. والافتراضات القائلة إن القبول بجوانب من الليبرالية أو دعمها يشكل وقاية للمسلمين من “التطرف”، وأن المسلم الوحيد “الجيد” هو المسلم الليبرالي، هي في أحسن الأحوال مقترحات مشكوك فيها.
وهنا أيضاً ثمة مفارقة حقيقة. ثمة خلاف في الليبرالية الغربية اليوم، والذي يتعلق بتوُّر الجمهور الديمقراطيات الغربية على أنها دول مراقبَة ذات ميول استبدادية متزايدة -من كاميرات الدوائر التلفزيونية المغلقة في الأماكن العامة، إلى مراقبة الإنترنت وجمع البيانات. وفي الوقت نفسه، يتحرك المسلمون الليبراليون في بعض الأحيان نحو خنق الإرهاب الجهادي عن طريق تعزيز السلطة المركزية، بما فيها استنهاض السلطة الإسلامية التقليدية.
بهذه الطرق، يمكن أن يعمل تعزيز الليبرالية على تقييد الحرية الإسلامية. ومنذ الهجمات على الولايات المتحدة في 11 أيلول (سبتمبر) 2001، أعلى الليبراليون الإسلاميون من شأن التقليد “الكلاسيكي” لإسلام “التيار السائد”. وعمل ذلك بمثابة ثِقلٍ موازن لما يرون أنها تأويلات منحرفة للدين يتبناها الإرهابيون الجهاديون. ولكن، من شمال أفريقيا إلى الخليج العربي، كان الإسلام التقليدي أو إسلام التيار السائد موثقاً بإحكام إلى مراكز محافِظة ترعاها الدولة للتعليم الإسلامي، وبقيادة متحالفة مع إدامة الوضع الراهن. وبما أن الحكومات الغربية تنظر إليها على أنها غير جهادية، فإنها تدعم بشكل عام استراتيجة تقوم على تسهيل الروابط العالمية بين هذه المؤسسات والمعاهد وبين المسلمين في الغرب.
وفي المقابل، أصبح المسلمون الليبراليون في الغرب متورطين في سياسات المعارضة في العالم الإسلامي. ويشكل حمزة يوسف، الأميركي الشهير الذي اعتنق الإسلام، ربيباً للمفكر الموريتاني الذي يعيش في السعودية، عبد الله بن بيّة. وتشيد الحكومات الغربية بيوسف باعتباره صوتاً للاعتدال. كما أنه يعمل نائباً لرئيس “منتدى تعزيز السلام في المجتمعات الإسلامية” -وهو هيئة ترعاها دولة الإمارات العربية المتحدة. وفي حزيران (يونيو) الماضي، أصدر المنتدى إدانة رسمية لدولة قطر. وفي إدانته، اصطف يوسف عملياً مع الإمارات العربية المتحدة والسعودية ومصر في شجارها الإقليمي مع قطر. ولا يتعلَّق هذا الشجار فقط بالمخاوف من اقتراب قطر أكثر من المنافس الإقليمي، إيران، وإنما يتعلق أيضاً بمطالب بكبح جماح صحافة قطر وحرياتها السياسية غير الاعتيادية -بالتحديد قناة الجزيرة. وحرية الصحافة عقيدة ليبرالية، كما تحظى الحرية في انتخاب حكومة بقيمة عالية بين الليبراليين. وكانت أول حكومة مصرية منتخبة ديمقراطياً هي حزب مرتبط بجماعة الإخوان المسلمين، والتي أطاح بها انقلاب عسكري في العام 2013. وتحتفظ دولة قطر بعلاقات ودية مع جماعة الإخوان.
لهذا الوضع علاقة بالإسلام الكلاسيكي، أو الإسلام جملة وتفصيلاً، أقل مما له بالاقتصاد السياسي لعلاقات الغرب مع دول الخليج العربي. لكنه يعكس أيضاً كيف أصبحت دول عدة تستخدم الإسلام الليبرالي وتعيد تدويره من أجل تحقيق غايات سياسية، حتى عندما يمكن أن تبدو هذه الغايات متعارضة مع المبادئ الليبرالية.
في الولايات المتحدة، أصبح حمزة يوسف موضوعاً للشجب والانتقاد بسبب ردة فعله غير المنتقدة تقريباً على هجمات الرئيس ترامب دونالد ضد المسلمين، وكذلك على انتقاده لحركة “أرواحُ السود تهُم”، الذي عبر عنه في مؤتمر إسلامي عُقد في تورنتو في أواخر العام 2016. وفي هذه الأثناء، تحركت الولايات المتحدة، بإدارة الرئيس نفسه، بطريقة أكثر مباشرة إلى داخل المدار الاقتصادي والجيوسياسي السعودي. وتقدم كل من قطر، والسعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة -والتي تعتمد كلها بدرجات متفاوتة على نموذج من الحكم الأوتوقراطي في الوطن- منحاً سخية للجامعات والمراكز الفكرية الليبرالية المرموقة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. ويشمل ذلك تمويل دراسات العالم الإسلامي -من مراكز الأمير السعودي الوليد بن طلال في جامعات إيدنبيرغ، وكيمبردج، وهارفارد وجورج تاون، إلى مركز بروكنغز في الدوحة، وكرسي الإسلام المعاصر الذي تموله قطر في جامعة أوكسفورد، والذي يشغله المفكر المسلم الليبرالي الإصلاحي الأكثر شهرة في أوروبا، طارق رمضان. ويترتب على “الإسلام الليبرالي” أن يشق طريقه عبر هذه العلاقات المتشابكة -إلى جانب تدفق الأموال والأسلحة، بطبيعة الحال. وتؤدي التقلبات السياسية التي يختبرها هذا العالَم حتماً إلى تشكُّل تحالفات غريبة.
بطبيعة الحال، يشكل رفض المعارضة –سواء كانت عنيفة أو غير ذلك- شأناً محورياً لنداء القبول بالنسبة للسلطات الدينية “من التيار السائد”، مثل تلك التي يجسدها يوسف، لأنها -بالتعريف- مشاريع تهدف إلى تعريف ما هو تقليدي بشكل مقبول. وقد أنتج هذا النوع من الإسلام الليبرالي نسخة من الاعتدال الإسلامي، والتي تغلق المساحة المتاحة للمسلمين، عن طريق الخلط بين “التطرف” و”الهرطقة”، للتعبير عن حريتهم خارج الرواية “الكلاسيكية” المهيمنة للإسلام الليبرالي. وهذه الأشكال من الأورثوذوكسية الإسلامية، التي تعترض على المعارضة، تميل إلى التؤثر بالصوفية -بالتحديد من نوع إسلام “التيار السائد” الذي يكون هو نفسه في كثير من الأحيان الهدف العنيف للسلفيين الجهاديين لتنظيمي “داعش” والقاعدة، وسوط السلفيين الوهابيين بشكل أكثر عمومية. وهذا الوضع لا يعكس العلاقات المعقدة والمتعارضة بين الإسلام الليبرالي والحريات الليبرالية فحسب، وإنما يشير أيضاً إلى محدوديات الاستراتيجيات التي تتبناها الدول الغربية عندما تدخل مجالاً ثيولوجياً من خلال مساواة نوع معين من الإسلام بالليبرالية. وليست تلك الصوفية طائفة، وإنما هي نهج إلى صوفية إسلامية تغذي فروعاً مختلفة من الإسلام، إن لم يكن معظم فروعه، بما فيها تلك التي تسعى إلى فرض أورثوذكسية كلاسيكية متمركزة حول المؤسسة، وأيضاً تلك الأكثر ميلاً إلى الاعتقاد بالتحرر من القانون الأخلاقي الديني الصارم، والتي تعزز محدودية هذا التفكير السياسي.
إلى حد ما، كان للسرد واسع المدى للإصلاحيين الليبراليين المسلمين الكلاسيكيين -والذي أصبح يحدد أصالة المسلم في الفضاء العام- تأثير مضاف في إلقاء الكثير من الاحتجاجات غير العنيفة في عالم الجماليات بدلاً من عالم السياسة. ولذلك نرى أن بعض التعبيرات الأكثر تحرراً عن الإسلام لا تتجلى في المجال السياسي، وإنما في المجال الجمالي -في الأدب والفن- في أماكن متفاوتة بقدر اختلاف باكستان عن الولايات المتحدة. لكن مشكلة الأصالة تشير أيضاً إلى قضية أكثر أساسية في التعامل من اشتباك الإسلام بالليبرالية -ما هو الشيء المميز، إذا كان ثمة شيء، في الإسلام الليبرالي؟
يصف المؤيدون الليبرالية الإسلامية بأنها توافق سعيد بين قيم الإسلام وقيم الغرب، وبشكل أكثر تحديداً، الدولة الديمقراطية-الليبرالية. ويخضع التاريخ الغني والمتنوع بشكل غير عادي للحياة الفكرية والسياسية والثقافية الإسلامية، نفسه لنوع من البحث السهل عن الأدلة على وجود التماثلات الليبرالية. وفي كتابه “الإسلام والمواطنة الليبرالية: البحث عن توافق آراء متداخل” (2009) قام المنظر السياسي، أندرو مارتش، على سبيل المثال، بتوليف ليبرالية جون راول مع تأويل معين للأرثوذكسية الإسلامية القانونية. وفي كتابه “إسلام بلا متناقضات: قضية إسلامية للحرية” (2011)، يتحدث الصحفي التركي، مصطفى أكيول، عن جذور رأسمالية وليبرالية للإسلام. ويقيم كتاب المفكر والمستشار السياسي، والي نصر، “اقتصاد مكة” (2209) الصلة بين مستقبل اعتدال الإسلام وازدهاره وبين القبول بليبرالية السوق الحرة.
تكشف هذه الدراسات عن مدى تأثير الليبرالية الغربية في المفكرين الليبراليين. إنهم يسعون جميعاً، بطرق مختلفة، إلى محاولة استيعاب الإسلام في داخل ليبرالية غربية مندغمة ومشروطة تاريخياً. وقد تضمن النظر إلى الإسلام باعتباره اصطناعياً أو مركباً على الدوام محاولة عقد مقارنات بين المفاهيم الليبرالية -الإجماع، والتشاور والعقلانية، على سبيل المثال- وبين الأفكار الإسلامية، مثل “الإجماع”، و”الشورى” و”العقل”، والتي تُعد متشابهة. وفي هذه الممارسات، تعمل المفاهيم “الليبرالية” كنقطة الانطلاق. وتصبح الأفكار الليبرالية بمثابة المقياس للأفكار “الإسلامية”. ويعني ذلك استعمار للفكر الإسلامي تمارسه الليبرالية، بطريقة تجعل من الممكن تعبئة الإسلام من أجل تحقيق مجموعة من الغايات والمصالح.
كثيراً ما يُتهم الإسلاميون بـ”الحديث المزدوج”، وباستحضار اللغة الليبرالية فقط لإخفاء نيتهم الحقيقية، التي يُزعم أنها الوصول إلى السلطة من أجل فرض قانون الشريعة. وقد اتهمت بذلك حركات إسلامية في كل أنحاء العالم، من جماعة الإخوان المسلمين في مصر إلى جماعة أمة الإسلام في الولايات المتحدة. وهو زعم له علاقة أقل بمؤامرات الحركات الإسلامية مما له بالطبيعة الغامضة ومتعددة الأشكال للمفاهيم الليبرالية، وكذلك بالمحدوديات والقيود المتأصلة في الإسلام الليبرالي. وبعد كل شيء، يجب على الإسلاميين تكييف الأفكار الليبرالية مع الإسلام، حتى لا يغامر المرء بتقليص أو تدمير شخصية الإسلام الأساسية أو “الأصيلة”. ولم يصل الإسلام والليبرالية العلمانية في أي مكان إلى مقدار من التعاون والتقارب أكثر مما حدث في تونس. فهناك، قاد راشد الغنوشي، مؤسس حزب النهضة في تونس، هذا المشروع التجميعي؛ وما تزال المعضلة الوجودية لهذا المشروع غير محلولة بعد.
تظل مشكلة العثور على “الإسلام” في “الإسلام الليبرالي” من بين الأكثر أساسية من معضلات الإسلام الليبرالي، وهي تشير أيضاً إلى تراجعه على ما يبدو عن الروحانية. ومثل المتشددين الذين يعارضونهم، فإن مؤيدي الإسلام الليبرالي يميلون إلى إضفاء المثالية على نظام قانوني. فعن طريق حقن مجتمع يعتقد بالصلاح الذاتي بتعاليم الشريعة، يقوم القانون بعقلنة الروحانية وترشيدها بطرق تكنوقراطية. وهذا واضح تماماً في تحمس الليبراليين المسلمين لتجربة ماليزيا، على الرغم من القوانين التي قمعت أقلياتها المعارضة، المسلمة والمسيحية على حد سواء. وربما تكون التشابهات القانونية بين قانون الشريعة والليبرالية مفاجئة للبعض، لكنهم لا ينبغي أن يتفاجؤوا. فعند النظر إليها مع إبقاء المنطق التنظيمي للدولة الليبرالية في البال، والذي يسعى إلى هندسة الحرية من خلال إدارة القيود والحوافز، سوف تبدو هذه التشابهات أقل غرابة.
كما هو الحال مع محاولاتهم جعل الشريعة الإسلامية صديقة لليبرالية، يشتبك بعض الليبراليين المسلمين بالتاريخ الإسلامي أيضاً من خلال عيون ليبرالية. وقد استوعب بعض المفكرين البارزين للقرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين -من سيد أحمد خان في الهند إلى محمد عبدُه في مصر- الأفكار الحديثة للعلم والمنطق في التاريخ الفكري الإسلامي، من أجل مساعدة التقدم الحضاري للإسلام في علاقته مع الغرب. ومن أجل الالتفاف على النقد القائل بأن الغرب فرض -تاريخياً- ليبرالية غريبة على الإسلام، سعى المسلمون أيضاً إلى استعادة فكرة الحرية نفسها. وكانت لذلك نتائج مختلطة. فقد مال الإسلاميون، من جماعة الإخوان المسلمين إلى أيديولوجيي الدولة الإيرانية، إلى إعادة تأطير الحرية الإسلامية بوصفها شكلاً من أشكال المقاومة ما-بعد-الكولنيالية التي تقف في تعارض مباشر مع الليبرالية الغربية. ومع ذلك، قال الليبراليون المسلمون، مثل خان وعبدُه، إنها كانت هناك في الحقيقة تشابهات بالمصادفة بين القيم الإسلامية وبين الليبرالية الغربية، والتي كانت منسية أو محجوبة، في كل من الهند والعالم العربي. ومن خلال الإشارة إلى العثمانيين الشباب في أواسط القرن التاسع عشر وتوليفهم بين الإسلام والليبرالية الدستورية، يقترح ليبرالي إسلامي معاصر مثل مصطفى أكيول بالمثل أن ثمة فئات ليبرالية غربية، من نوع التسامح، وحرية الفرد وحقوق الإنسان، والتي يمكن تمييزها في تاريخ تركيا الإسلامي.
بالانتقال إلى ما وراء التماس التشابهات التي جاءت مصادفة، أصبح من الشائع بين الليبراليين الإسلاميين الإشارة إلى أن الغرب اقترض من الإسلام في “العصر الذهبي” الإسلامي في العصور الوسطى. ويتم تقديم ذلك في بعض الأحيان كرواية تاريخية تربط بين الفضائل “الليبرالية” وبين الفضائل “الإسلامية” عن طريق اقتراح التطوير الغربي للأفكار من أسبانيا الإسلامية بواسطة المفكرين والفلاسفة والعلماء المسلمين. وبهذه الطريقة، كما تقول الأطروحة، لعب الإسلام دوراً حاسماً في جعل الليبرالية المعاصرة ممكنة عن طريق المساعدة أيضاً في جَسر المسافة بين العوالم الغربية القديمة والحديثة.
في حين أن هناك بعض الحقيقة في هذا السرد، فإنه يقفز عن بعض من الفصول الأكثر خبثاً من عدم التسامح، والتي مازجت التاريخ الإمبريالي الإسلامي (ومن آخر ذلك، امتداد هذا المزاج من العودة إلى الوراء إلى قول ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، أن بلده كان قبل العام 1979 واحة للاعتدال الإسلامي). ويقترح كل ذلك وجود نوع من التفكير الدائري؛ حيث ينكر المفكرون الإسلاميون التاريخ جملة وتفصيلاً بنسيان مواضيهم الخاصة، حتى بينما يسعون إلى تذكر ماضٍ أصيل وموثوق.
كما يروج الباحثون أيضاً في بعض الأحيان لليبرالية الإسلامية عن طريق إحالة حساسيات حاضرنا بقراءة ارتجاعية إلى الوراء، وبزعم وجود “لحظة ليبرالية” تأسيسية يُنظر إليها على أنها متماسكة. وحتى المؤرخ البريطاني، ألبرت حوراني، في دراسته الكلاسيكية لدائرة محمد عبدُه “الليبرالية” في كتاب “الفكر العربي وفي العصر الليبرالي” (1962)، انخرط في هذا النوع من تأويل أحداث الماضي في ضوء القيم والمفاهيم المعاصرة. وبطريقة تخون غائية التأويل الكامنة التي عزاها إلى إسلام محمد عبدُه الليبرالي في مقالة لاحقة عن ارتداء الحجاب، كان حوراني مخطئاً إزاء عدم صلة ذلك بالمستقبل. لكنه قلل أيضاً من شأن تنويعات الليبرالية الإسلامية بين معاصري عبدُه الأقل شهرة، كما أظهر بحث جديد للمفكر والمؤرخ حسين عمر.
ربما يفسر هوس الإسلام الليبرالي بتاريخه الخاص السبب في أن حظوظه تبدو أيضاً متقلبة ودورية إلى هذا الحد، على نحو يتركه عاجزاً عن التغلب على بعض من المشكلات نفسها التي واجهها في الماضي -مشكلات الأصالة والموثوقية، وكونه شديد التشابك مع الشواغل السياسية الغربية، وكونه بالغ التركيز على تسخير سلطة الدولة، أو (فيما ينطوي على مفارقة) فرض نفسه على المسلمين الآخرين.
ولكن، إذا لم يكن يريد أن يُبتلع تماماً في فئات الليبرالية الغربية وأن يفقد جوهره، ما هو إذن مستقبل “الإسلام الليبرالي” كشكل متمايز من السياسة الدينية؟ باعتباره مشروعاً للإصلاح لفترة ما بعد 11/9، يواجه الإسلام الليبرالي عدداً من التحديات، والتي تشير كلها إلى ضرورة إطلاق دعوة أكثر أصالة وجرأة من أجل الحرية الفردية.
يجب على الإسلام الليبرالي أن يعثر أولاً على طريقة لاستيعاب الاختلاف، والمعارضة، والبدع والهرطقة. ولن يحدث ذلك بينما يخضع الإسلام الليبرالي لهيمنة الوشائج بين السلطة الإسلامية التقليدية، أو الكلاسيكية، وبين سلطة الدولة. كما أنه في حاجة أيضاً إلى اكتشاف شكل أكثر إبداعاً من النظرية السياسية التي تذهب إلى ما وراء إعادة إحياء “العصر الذهبي” للسياسات الإسلامية، أو تكرار نسخة الدولة الليبرالية الغربية. وربما يتضمن ذلك خلق رؤية أكثر توسيعاً وأقل مركزية من السياسات الإسلامية في عصر معَولم. وإذا كانت لتحتفظ بأي قوة متسامية كأحد أشكال الإيمان -أن يكون بديلاً صالحاً لكل من العلمانية والتشدد في عصر يتسم بالتطوعية- فإن إعادة تأمل تترك متسعاً لأشكال من الروحانية الفردية التي لا تحرسها السلطات التقليدية، ربما تكون أكثر فعالية.
أما إذا كان أي من هذا سيحدث أم لا -أو حتى أن يكون ممكناً- فهو بطبيعة الحال سؤال مفتوح. ولكن، ما لم نعمد إلى استنطاق الفرضيات الفكرية للإسلام الليبرالي بطريقة أكثر جرأة، بعيداً عن الأطروحات المنطوية على مغالطات المصابين برهاب الإسلام، فلن يستطيع أي قدر من الدعم لـ”إصلاح إسلامي” أو إسلام “معتدل” -مهما كان حسن النية- أن يفضي إلى تغيير وتمكين يعتد بهما، ولا أن يحل معضلة المستنقع الحالي من التشدد.
*Aeon: مؤسسة خيرية مسجلة ملتزمة بنشر المعرفة ورؤية عالمية. ومهمتنا هي توفير ملاذ على الإنترنت للتفكير الجاد.
*زاهير كاظمي، زميل بحث رفيع في معهد السيناتور جورج ميتشل للسلم والأمن والعدالة العالمية في جامعة الملكة في بلفاست. آخر كتبه هو “الإسلام بعد الليبرالية” (2017)، كمحرر مشارك مع فيصل ديفجي.
*نشر هذا المقال تحت عنوان :
Beyond liberal Islam
ترجمة علاء الدين أبو زينة – الغد – 28/1/2018

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى