أقلام وأراء

أمير مخول يكتب – قرار العليا بشأن قانون القوميّة : الفرق بين إضفاء الشرعيّة والقوننة

أمير مخول 16/7/2021

في قرارها الأسبوع الماضي بردّ الالتماسات التي طالبت بإلغاء تشريع قانون أساس القومية، قامت المحكمة العليا الإسرائيلية بدورها المنوط بها، بنيويا ومعياريا، ضمن المنظومة الإسرائيلية والمشروع الصهيوني بالمفهوم الأوسع. وعليه، فإنها لم تشرعن ما هي جزء منه، إلا إذا اعتقدنا بأنها خارجه أو أنها حيادية أو أنها عادلة، وفي الحقيقة لسنا هناك، وهذا ما تعكسه المواقف ولكن بالأساس تؤكده التجربة مع الجهاز القضائي الإسرائيلي.

هناك استعجال في انتقاء مفردات الخطاب السياسي والإعلامي في الداخل، فعندما نقول إن المحكمة العليا تشرعن العنصرية البنيوية، فإننا نخرجها من منظومتها ونعفيها من كونها متهمة وليست مرجعًا معياريًا في هذا الصدد. كما تولد مقولة الشرعنة الوهم بأنه بمستطاع المحكمة أن تكون خلاف ذلك. وتدلّ التجربة التاريخية وبشكل منهجي على أن “محكمة العدل العليا” تكاد تكون كما اسمها، في كل شأن يقع خارج الحق الفلسطيني، والأمثلة كثيرة للغاية منذ سبعة عقود، مثل قانون لمّ الشمل، إعادة لاجيء، الطعن في قانونية المستوطنات أو المصادرات أو هدم البيوت، بل الأخطر أنه وفي حال أنقذت بيتًا من الهدم بسبب إجرائي إسرائيلي وليس حق المواطن العربي الفلسطيني في الأرض والمسكن، فإنها تكون قد قوننت جوهر الهدم كسياسة. ولو نظرنا إليها بالتراكم، لوجدنا في ثناياها إستراتيجية الطرد الجماعي والتطهير العرقي بالوتيرة التي تتيح تنفيذهما وكي لا تثير هبّة الناس.

من الجدير أن نلتفت إلى البتّ القضائي في مسألة التطهير العرقي في الشيخ جراح في القدس، حيث كشفت انتفاضة الجماهير الشعبية وما رافقها من فعل سياسي فلسطيني وعالمي، بأن البتّ القضائي فيها مرهون بتوازن القوى بين أصحاب الحق المباشرين وغير المباشرين، وبين الاحتلال ودولته بما فيه محكمته. فالقضاء ليس حياديًا ولا يصبو ليكون كذلك، وبالأخص ليس طرفًا ثالثًا بين إسرائيل والشعب الفلسطيني، بل إن القضاء الإسرائيلي لا يُشرعن ما هو جزء منه.

وعليه، فحين يلتمس مركز “عدالة” أو لجنة المتابعة إلى المحكمة العليا الإسرائيلية، فإن ذلك ليس بالضرورة من أجل نيل الحقّ من هذه المؤسسة، بل لرفع خطابنا والدفاع عن حقوقنا، وقد يكون من باب “حاصر حصارك”. فالخطاب الذي تطرحه هتان المؤسستان الجديرتان هو خطاب تمكيني، ومحاججاتهما تفوق أهمية الإجراء مثار النقاش؛ أي هل يجب أن نلتمس للعليا بشأن قانون القومية أم لا، وهو ما سأتطرق إليه لاحقًا.

إن مصدر الشرعية بالنسبة للفلسطينيين مواطني إسرائيل هو بقاؤهم في وطنهم، وهو ما سلبه المشروع الصهيوني من شعبهم ووطنهم، وهو الحق الفلسطيني بمفهومه الواسع بالعودة والتحرير وتقرير المصير، والذي يحظى بالشرعية الدولية. وفي المقابل، فإن العنصرية الإسرائيلية لا تعود بتاتًا إلى قانون القومية، بل أن قانون القومية هو نتاجها. فالواقع أكثر عنصرية من قانون القومية، والقانون لم يعزز العنصرية البنيوية، بل كشفها بشكل جليّ، وهذا يعيدني إلى مؤتمر ديربان (جنوب أفريقيا) الدولي ضد العنصرية عام 2001، حين نجحنا في المؤسسات الأهلية الفلسطينية والعربية والدولية في هزيمة إسرائيل ودمغها بالعنصرية، بالكشف عن مواطن العنصرية في قوانينها وبنيتها ومؤسساتها القومية، بالإشارة إلى 23 قانون تمييزي وعنصري، فيما جاء قانون القومية ليكشف المكشوف جوهريًا والمستتر بين النصوص، وبأن الممارسات الجوهرية للدولة أكثر سطوة وعمقًا استعماريًا من قانون القومية. وبهذا المفهوم، فإن قانون القومية الذي يجمع عدة قوانين معا، هو بالأساس نتاج العنصرية الإسرائيلية التي للاستعارة أطلق عليها العنصرية الغبية، والتي من الأسهل التعامل معها من العنصرية الذكية. فلو كان قياديا على شاكلة شمعون بيرس مثلا في سدة الحكم، لكان من الصعب أن يسعى لتشريع مثل هذا القانون، بل كان سيتحدث عن التعايش والسلام، ليتيح للدولة أن تمارس كل عنصريتها وعدوانيتها وسطوتها بكل حرية ودونما لفت النظر الشعبي لذلك. فالقانون ورغم فظاظته يبقى قاصرًا عن الإحاطة بمجمل أشكال العنصرية الاستعمارية الممارسة فعليًا منذ العام 1948.

رغم ذلك، هل نتوجه إلى المحكمة العليا الإسرائيلية؟

مثل هذا الموضوع كان جديرًا بالنقاش الشعبي قبل البتّ به، لكن ذلك لا يقلل من وجاهة الموقف بالالتماس للعليا. وكما ذكرت آنفًا بصدد موقع المحكمة في المنظومة الإسرائيلية، وكونها تعمل بقوة سطوة الدولة وقانونها، فإنها في مثل هكذا حالات تسعى جوهريًا للنظر في مصداقية الإجراء، فيما مشكلتنا هي مع جوهر الجوهر بغض النظر عن الإجراء. وهذا تناقض أساسي. رغم ذلك وكما تعلمت من مسيرة مركز “عدالة”، بأن المؤسسة في كثير من الأحيان تلتمس للعليا الإسرائيلة بدرية مسبقة بأن الأخيرة سوف ترد الالتماس. وبهذا المفهوم، تكون المحكمة العليا حلبة لإدارة صراع بين روايتين وخطابين ومنطقين. وفي هذه المواجهة يوجد تمكين ذاتي داخلي للجماهير العربية الفلسطينية وخطابها الحقوقي. ولا يتوفر لدينا أي عنوان قضائي نسعى فيه للدفاع عن حقوقنا سوى القضاء الإسرائيلي، وكل ما نحققه فيه هو بفضل أدائنا وليس بفضل عدالتهم، فلا أوهام في ذلك. كما يوجد بعد آخر، وهو أن أي إجراء قضائي دولي لا يجري النظر فيه دون استنفاد الوسائل الإجرائية المحلية. لكن لو نظرنا إلى خطابنا الحقوقي كجماهير ومؤسسات، لرأينا التراكم الكبير في تعزيز بنيته وقوته ووضوحه، وهذا لا يأتي نظريًا، بل بخوض المواجهة على أرض الواقع القضائي الإسرائيلي والواقع السياسي والشعبي. فلا بدائل ولا خيارات سوى خوض هذا التحدي الذي من شأنه التمكيني أن يعزز الطريق لنيل حقوقنا الجماعية، وأن يخلق الفرص لوضعية كفاحية أفضل، والطريق طويل؛ أي التعامل مع قانون القومية ومع قرار العليا بكونهما فرصة لنضال جماهير شعبنا.

كلمة عن خطاب الفصل العنصريّ (الأبرتهايد)

بدايةً، لا بأس بالمقارنة بين إسرائيل والأبرتهايد في جنوب أفريقيا، وكذلك مع العديد من أنظمة عدوانية وعنصرية واستعمارية، لكن المشكلة الجوهرية في فلسطين كلها هي مسألة واقع استعماري ويقابله تحرر وطني. حتى وإن كان القانون الدولي يتعامل مع الإبرتهايد بما يعادل تعامله مع الاستعمار، إلا أن الأبرتهايد كصيغة لا يتسع لمجمل جوانب المسألة الفلسطينية، فاللاجئين والمهجرين مثلا، وكذلك الاحتلال بكل ممارساته وبالأساس النكبة، ونهب أملاك الشعب الفردية والعامة، هي ليست أبرتهايد، بل هي استعمار استيطاني. كما تحدثت الثقافة الوطنية الفلسطينية في السابق عن “الصهيونية عنصرية”، وانتزعت الثورة الفلسطينية في العام ،1975 ومعها قوى التحرر في العالم وبتأييد 72 دولة، قرار الأمم المتحدة بدمغ الصهيونية بالعنصرية والمعروف بالقرار 3379. وهو القرار الذي جرى إلغاؤه عام 1991 “بفضل” المباحثات التي أفضت إلى اتفاقيات أوسلو. لقد تعلم نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا الكثير من حليفته إسرائيل. في المقابل، كانت علاقات التحالف الإستراتيجي والتعاون استثنائية ما بين م. ت. ف بقيادة ياسر عرفات والمؤتمر الوطني الأفريقي بقيادة نلسون مانديلا. إن مفردات الخطاب التحرري الفلسطيني أكثر ملاءمة لقضية فلسطين وأكثر تعبيرًا عن جوهرها وعن مجمل مركباتها؛ بل أن حصر الخطاب بالأبرتهايد فيه تخفيف من جوهر المشروع الصهيوني، سواء بالمفهوم التاريخي أم الآني.

في كل البني الاستعمارية والعنصرية، دأب الاستعمار إلى قوننة ذاته وقوننة وضعية ضحاياه، وبذلك ظن بأنه ازداد شرعيةً، لكن فقط في نظر نفسه ومشروعه ومحاكمه وقوانينه، فيما الواقع الاستعماري لم يتغير بالنسبة للضحايا إلا بكفاحها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى