أقلام وأراء

أكرم عطا الله يكتب: لم تعد القاهرة نداهة اليتيم الفلسطيني

شاء قدر الفلسطيني في غزة أن يدور صراعاً على السلطة بين الأخوة الألداء ينتهي بسيطرة أحدهم بعد أن يطرد الآخر ليدخل بعدها القطاع  في لعبة الموت والمعاناة، أحد عشر عاماً من العبث الذي لا تفسير له جعلت من سكان القطاع الذين كانوا الأكثر كبرياءاً جعلت من الاهانة والذل رفيقا حياتهم في هذه المنطقة  ويتجسدان في كل شيء ، في غزة على الأجيال أن تبدأ بالتعلم أن تترك كرامتها جانباً لأنها وليدة هذا المكان البائس.

انتمي لجيل عاش طفولته نهاية سبعينات القرن الماضي كان أبي شرطياً لدى الادارة المصرية التي حكمت قطاع غزة عصر الخمسينات والستينات كنت أسمع أبي حين كان يقرر السفر للقاهرة كأنه يتحرك بين مدينتين في وطن واحد حتى في ظل سيطرة الاحتلال على قطاع غزة كان السفر سهلاً وكانت القاهرة آنذاك تستقبل كل العرب الهاربين من بطش سلطاتهم كانوا يسمونها أم الدنيا وكان أصدقاء أبي حين يسألونه يقول من يشرب من النيل لابد أن يعود هناك لأنه يدمن قاهرة بمجرد جرعة لمن أصيب بالظمأ.

كطفل كان لديه توق أن يرتوي من ماء النيل فالجيل الذي سبقنا كان قد تعلم في القاهرة حين كانت نداهة اليتيم الفلسطيني عندما سُرق وطنه في غفلة من الزمن فكانت مصر وطنه الثاني وكانت غزة قد وجدت نفسها في الحضن المصري وحين كبرنا أصبحت القاهرة عصية بعيدة تباعدت المسافات ولم يعد كثير من الطلاب الذين يحدثوننا عن ليل القاهرة ووسط البلد والهرم ومقهى الأميركين وجروبي وكوبري قصر الشوق وجامعة  والحسين.

منذ أحد عشر عاماً أصبح الطريق الى القاهرة يزداد وعورة انغلق في السنوات الأخيرة ولم تعد القاهرة التي دفعت دم أبنائها من الجيش المصري دفاعاً عن غزة تتواصل مع هذا الارث وكأن هناك حالة قطع مع التاريخ لمن يراقب انسيابية الحركة بين المدينتين بعكس العلاقة بين الضفة الغربية والأردن واللتان تميزتا بصراع دام في نهاية ستينات القرن الماضي لكن عمان تجاوزت ذلك والفرق بين تعاملها على المعابر مع سكان الضفة الغربية وبين القاهرة وسكان غزة كبير هذا ما يقوله كل من يسافر ويقارن.

شاء القدر أن أسافر قبل شهرين الى أوروبا ولأن القاهرة هي طريق العبور الوحيدة بالنسبة للغزيين وفي رحلة العودة أيضاً ظل السؤال الحائر كيف يمكن للوصول من غزة للقاهرة أن يستهلك يومان كاملان وكيف يمكن للعودة أن تكلف ثلاثة أيام هذا لم يعد يحدث في أية بقعة في العالم وهذا أكبر من أن يحتمله بشر وعائلات وأطفال تبيت في السيارات أو تنتظر في صالة مرور أو انتظاراً لمعدية تقطع به قناة السويس فقد كان عبور الجيش المصري للقناة فاتحا أسهل كثيرا من عبور الفلسطيني مارا .

ليس من المبالغة القول أن الرحلة من والى عاصمة العروبة هي الأقسى ولا شيء يقنع المسافر بعدم قدرة الدولة على تسهيل الأمر،  لماذا ينام فلسطيني في صالة المغادرة؟ ولماذا يتم تفتيشه على كل الحواجز في سيناء؟ ولماذا ينتظر يومان ربما لينتقل بين ضفتي القناة؟ ولماذا يقف على حاجز يحتاج الى ثلاث ساعات كي يفتح؟ وأسئلة كثيرة ترافق رحلة السفر الشاقة.  

الأمر ليس فنياً ولا ادارياً لأمكن ايجاد ما يكفي من الحلول والاقتراحات وان كانت مصر قد أغلقت المعبر بانتظار تسلم السلطة للمعابر وها هي قد أشرفت بنفسها على تسليم السلطة لمعبر رفح فلماذا لازالت تتعامل بنفس المنطق والمعاناة تقع على الناس البسطاء الذين وقعوا ضحية الصراع بين الفلسطينيين وفيما تذهب وفود الفصائل بكل سهولة لازال المواطن الذي لا ذنب له يدفع الثمن لقد رأيت سيدات وأطفال نائمون على الأرصفة.

ومع كل التفهم لما يدور في سيناء وحرص الأمن المصري على احكام السيطرة وتحقيق الأمن فيها لأن ما دفعه الجيش المصري في معاركه الأخيرة ضد الارهاب هناك من أرقام كبيرة استمعت اليها في زيارتي الأخيرة لمركز الأهرام للدراسات تدعو للحذر وأخذ كل الاحتياطات اللازمة ولكن ان كان الأمر كذلك على الحواجز في سيناء فلماذا هو كذلك في صالة الدخول يستهلك كل هذا الوقت ليجد المواطن نفسه مضطراً للنوم فيها واذا كان الأمر كذلك في صالة الوصول فلماذا يحدث في صالة العودة وهو يغادر الأراضي المصرية تماما ؟

الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي كما قرأنا بوسائل الاعلام أعطى تعليمات بتسهيل حركة وسفر المواطنيين من القطاع لمصر والعكس ولكن بعد تعليمات الرئيس حدث العكس تماماً هذا ما يقوله الواقع فهل يعرف الرئيس السيسي بما يحدث بالتفصيل للمواطنين في غزة الذين باتوا كاليتامى بلا أب ،  ففي طريق عودتي كانت الناس تتساءل عن سبب المعاناة وتطالبني بالكتابة كنت أقول لهم نحن يتامى بلا أب وتلك مسئولية قيادتنا أن تخفف من معاناتنا لكن القاهرة في ذروة اليتم سابقاً كانت النداهة التي تنادينا بأجنحتها وتظللنا بها عطفاً تبدو كأنها توقفت عن النداء في يتمنا الجديد…!!!  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى