أكرم عطا الله: أسود العرين
لأن السياسة بمعناها البسيط هي حاجات البشر الأولية في المجتمعات، ولأن الظاهرة السياسية كفعل اجتماعي لا تنشأ من فراغ بل نتاج لواقع يؤهلها ويرسم دورها ويحدد مكانها ومكانتها ويضبط إيقاعها، فقد جاءت ظاهرة عرين الأسود لتغطي فراغا أحدثه غياب الفعل على الساحة الفلسطينية وبالتحديد في الضفة الغربية وليس بعيدا عنها في قطاع غزة الذي اتكأت عليه الضفة في السنوات الأخيرة في إدامة معادلة الصدام مع إسرائيل.
غياب العمل السياسي للسلطة في الضفة وتراجع حركة حماس عن التدخل المباشر للرد على مسيرات الأعلام واقتحامات الأقصى كما السنوات الماضية كان يُحدث تحولا في المزاج العام في الضفة الغربية. وكان هذا التحول يختمر بهدوء إلى أن تفجر معبراً عن نفسه مع مطلع العام بظواهر مسلحة بدأت شرارتها في نابلس ثم عاد العمل للتمركز في جنين التي كانت تنوي إسرائيل القيام باجتياح كبير لها «سور واقي 2» في شهر أيار الماضي أوقفها اغتيال مراسلة الجزيرة شيرين أبو عاقلة والحملة الإعلامية الغاضبة على إسرائيل حينها.
عادت الظاهرة إلى نابلس بشكل أقوي على شكل مجموعة من الشبان الذين تقل أعمارهم عن ثلاثين عاما ولا ينتمون للفصائل التقليدية، وتمكنوا خلال فترة قصيرة جدا من تنفيذ عدد كبير من العمليات مستخدمين وسائل التواصل الاجتماعي والتحول من مجموعة إلى ظاهرة ذات زخم وأصبح نشطاؤها أبطالاً في المجتمع الفلسطيني المتعطش للبطولات، والذي تستيقظ وسائل الإعلام يوميا لتحصي عدد المعتقلين ومن زعرنات المستوطنين في أقدس مقدساته وفي حقوله وشوارعه، هذا المجتمع سرعان ما تلقف الظاهرة ليتحول فعلها وتأثيرها إلى ما هو أبعد من نابلس.
ومن «سور واقي 2» إلى «كاسر الأمواج» ومن اجتياح لاغتيال ومن مسؤول يعتلي موجة التطرف ليصعد نحو الكنيست لمسؤول توفرت له اللحظة التاريخية بكل إمكانياتها وشرورها ليكتب شعارات دعايته بالدم، كانت مجموعة من الفتية الذين آمنوا بوطنهم تتحدى وطأة التاريخ وتعلن تمردها على الحاضر وتسحب اعترافها بشرعية معادلة الراهن لتقلب هذه المعادلة في وجه الجميع وتقول «نحن لها «. صاعدون بخطى واثقة يكللهم شعبهم بأكاليل الغار وبالزغاريد.
سخرت أسود العرين من الغابة وقطعت حبالها. ومن تابع النقاش العام في إسرائيل خلال الأسابيع الماضية كان يدرك أن أمن إسرائيل استفاق من غفلته على أزمة تتدحرج بسرعة بعد أن نام مطمئنا أنه تمكن أخيراً من كي وعي الفلسطيني في الضفة. وللسخرية في بداية النقاش كان يتحدث عن عزل الأسود عن المجتمع وتحويلهم إلى حالة منبوذة ليكتشف أن الشعب يحمل العرين فوق الجبين وهنا كان مبعث المأزق.
أفشلت الظاهرة كل سياسات إسرائيل وكل خططها وبرامجها الأمنية والاقتصادية التي أرغمت المؤسسة الإسرائيلية على أن تترك كل شيء ولا هم لها إلا الخلاص من مسلحي نابلس قبل أن تنتشر إلى باقي مدن الضفة، معتقدة أن الأمر ينحصر في مجموعة من عشرات الأفراد لأن الأفق السياسي للمحتل دوما أكثر غباء من قراءة الظواهر الثورية ولا يدرك أن المزاج الشعبي الوطني هو من صنع الظاهرة وأفسح لها كل هذا المكان وهو من يتكفل برعايتها وحمايتها وإنتاجها.
قالت عرين الأسود ما كان يريد أن يقوله كل فلسطيني بلغ به السيل الزبى، صرخت بحنجرة الإرادة في وجه التاريخ الأحمق، قالت إنه تحت رماد الاحتلال جمرات لن تنطفئ وأن تاريخ الشعوب لم يشهد تعايشا مع محتليه، وتعلمت إسرائيل درسا رسبت مرارا في امتحاناته بأنه لا يمكن تطويع وتطبيع شعب في لحظة يقف فيها الهرم مقلوبا وأن الشعوب تعود لفطرتها الطبيعية في التمرد على الظلم.
كان دم الأحبة مجبولا بعرق الإرادة ودموع التوق للحرية والحنين لإنسانية أعدمها الواقع. فإلى متى سيبقى الشعب الفلسطيني تحت سيف الظلم ؟ إلى متى سيظل يدفع هذه الأثمان الغالية لأن القدر أرسل له احتلالا غير عادي يصر على حكم شعب آخر بالحديد والنار ويريد صناعة معادلة لم تنجح فيها القوى العظمى، وكم يحتاج فهم الدرس من الدم ؟ يبدو أنه يحتاج الكثير لمن يراقب انزياح إسرائيل ولمن يقرأ عقلها …وهنا يقدم الشباب جوابه القاطع والحاسم بلا تلعثم حاملا روحه على كفه وهو يراكم تجربة الفلسطيني الطويلة.
وماذا بعد ؟ اجتياح جديد واغتيال آخر. هل حلت إسرائيل مأزق احتلالها للضفة ؟ التجربة طويلة تستعر هنا وتخفت هناك لكن التمرد مستمر لسبب بسيط هو أن المعادلة التي تريد إسرائيل أن تجعلها طبيعية هي غير طبيعية. فهل سكت شعب أمام محتليه ؟ لو كانت سابقة يمكن لإسرائيل أن تتكئ عليها وتجرب لكن أمامها كل هذا التراث الكبير للبشرية وهي تصطنع الغباء؟
كان مشهد الوداع آسراً يحكي سيرة شعب لم يتعب رغم وعورة الطريق يعيد قَسَم الولاء للحرية. وإذا كانت إسرائيل قد تمكنت من مشاغلة الفصائل بالحكم ونزاعاته واستحقاقاته السياسية وأشغلتهم في صراعاتهم الداخلية جاء نداء الشعب من عمق الأرض في أحيائها القديمة في نابلس ليملأ فراغا، فالسياسة لا تعرف الفراغ ؟، هكذا قالت أسود العرين في أبلغ رسالة علّها تصل، فطوبى لهم.