أقلام وأراء

أسعد غانم: نحو أجندة استراتيجية وعلمية لمجابهة ما يحدث في غزة

الحرب الحالية محطة تاريخية في مسيرة الفلسطينيين قد تعادل في أهميتها النكبة الأولى

أسعد غانم 23-5-2024: نحو أجندة استراتيجية وعلمية لمجابهة ما يحدث في غزة

شهر مايو/أيار هو شهر ذكرى النكبة الفلسطينية التي لا زالت مفتوحة على مصراعيها وتتفاقم يوميا وكل ساعة، بسبب استمرار إسرائيل في اعمال ترويعها للفلسطينيين وملاحقتها لهم وتقتيلهم وتجويعهم ومصادرة أملاكهم وصولا إلى الحرب المفتوحة عليهم في كل أماكن وجودهم، وخصوصا في غزة.

في الباب الإسرائيلي للنكبة وآثارها كتب الكثير، ولا زالت تتوالى الدراسات والكتب والمقالات والتعليقات وهي كلها بالتأكيد مفيدة في التنبيه إلى إسرائيل وجرائمها بحق الفلسطينيين وهي كذلك مهمة كجزء من جهد ثقافي يحفظ للأجيال القادمة تفاصيل مهمة عما حصل في سياق جهد استعماري- كولونيالي للسيطرة على فلسطين كجزء من محاولات السيطرة والتحكم في العالم العربي في موقع جغرافي هو الأكثر أهمية للتواصل العربي-العربي. وكل ذلك يتلاقى مع جهود سياسية لإعادة الحق أو على الأقل جزء منه، لأهله الفلسطينيين الذين شردوا وقتلوا وجرحوا وتفرقوا وعانوا ولا زالوا، من آثار النكبة الأولى وما لحقها من مآس وملاحقات.

في خضم الجهود العلمية والإعلامية والرسمية والشعبية لتدوين ما حصل وحفظه مستقبلا، كانت هنالك محاولات جريئة وشجاعة لتدوين ورصد مساهمة أنظمة عربية وقيادات فلسطينية في نكبة فلسطين، وما تبعها من معاناة وتقليص فرصة إعادة الاعتبار للفلسطينيين وحقوقهم. فقد انبرى مؤرخون فلسطينيون، ليس للإشارة إلى جرائم إسرائيل وجيشها بحق الفلسطينيين فقط، بل كذلك إلى شرح وبيان إخفاقات القيادات الفلسطينية في تحضير الشعب الفلسطيني لمواجهة ما خطط له، كما في عدم الكفاءة في إدارة أموره بعد ذلك وصولا إلى نكبة 2023-2024 في غزة، وعموم فلسطين. هذه الجهود مهمة لأجل الحقيقة التاريخية التي لا تبعد عن الشعب الفلسطيني، وقياداته تحديدا، مسؤولية جزء مما حصل للفلسطينيين، إلا أنها أهم في السياق السياسي، أي في جهود تحقيق العدالة والوصول إلى تسوية منطقية تناسب حقوق الفلسطينيين في وطنهم وتعوضهم نسبيا عما عانوه خلال عقود.

تأتي الذكرى السادسة والسبعون للنكبة، في ظل مأساة غزة وتداعياتها المستمرة منذ سبعة أشهر، لتشكل في رأيي محطة تاريخية مهمة في مسيرة الشعب الفلسطيني، قد تعادل في أهميتها التاريخية والعلمية النكبة الأولى عام 1948 والنكسة عام 1967 وقد تتفوق عليهما في تداعياتها. وأعني تداعياتها كمحطة سياسية وثقافية واجتماعية وإنسانية عامة سوف تترك أثرا هائلا على الفلسطينيين، وعلى المنطقة عموما وربما على العالم.

مما لا شك فيه أن ما سيكتب من تحليلات ودراسات وتقارير حول حرب غزة 2023-2024 سوف يفوق ما كتب عن النكبة الأولى واحتلال الضفة الغربية وغزة في 1967، وهي مهمة بدأت في الحضور تدريجيا وسوف تزداد تباعا في السنوات القريبة. ومن المؤكد أن هذه الجهود ستحاول فهم وتفسير ما حصل فلسطينيا وعربيا وإسرائيليا وإسلاميا وعالميا من تداعيات للحرب الدائرة الآن في غزة، وسوف تنشر في ذلك الكتب، وتكتب رسائل الدكتوراه والمقالات العلمية وستقام المؤتمرات والندوات، في السبعين سنة القادمة أو اكثر.

انبرى مؤرخون فلسطينيون، ليس للإشارة إلى جرائم إسرائيل وجيشها بحق الفلسطينيين فقط، بل كذلك إلى شرح وبيان إخفاقات القيادات الفلسطينية في تحضير الشعب الفلسطيني لمواجهة ما خطط له

تتشكل أمامنا صورة أولية عن تداعيات حرب غزة. ومن المؤكد أن ما حصل حتى الآن هو تداعيات أولية قد تتعاظم أو تتغير بحسب تطورات الحرب وما يعقبها من ترتيبات، وكل ذلك سيؤثر كثيرا على مستقبلنا جميعا في فلسطين، وفي المنطقة العربية، وربما على المستوى الدولي. فلكم أن تتخيلوا أوليا ما قد تحدثه الحرب في إسرائيل من تأثيرات على السياسة والمجتمع والجيش وعلاقة المؤسسات الأمنية بالمجتمع، وهجرة اليهود من إسرائيل وإليها، والتداعيات الاقتصادية، وعلاقة إسرائيل بحلفائها… وسوى ذلك من تفاصيل كثيرة جدا ليس هنا المقام لتقديمها. طبعا هنالك تداعيات فلسطينية بالغة العمق والقوة وستطال المجتمع والساسة والقيادة والمقاومة و”حماس” و”فتح” والأسرى وطرق النضال والاقتصاد واللاجئين والشتات الفلسطيني وفلسطينيي 48، ودور المثقفين وعشرات أو مئات التفاصيل الأخرى التي ستتغير والتي تحتاج إلى البحث والتمحيص.

عربيا، هنالك تداعيات شعبية ورسمية ومبادرات جديدة واصطفافات، لا سيما فيما يتعلق بإيران ودورها، و”حزب الله” ومساهمته المحدودة في الحرب الحالية وعشرات التفاصيل الأخرى التي ستخضع للتحليل ومحاولة الفهم.

دوليا، هنالك تطورات بالغة الأهمية لها علاقة بما يحدث في غزة. فهنالك تطورات في العلاقات بين القوى العظمى وسياسات الكتل الدولية ومصالحها، وطبعا هنالك الاصطفاف الكبير إلى جانب إسرائيل على مستوى الحكومات والأنظمة، وهنالك تطورات على مستوى أداء المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة ومؤسساتها والمحكمة الدولية وقراراتها بشان دعوى جنوب أفريقيا في قضية جرائم إسرائيل في غزة، وطبعا هناك الاصطفاف والتضامن الكبير في مظاهرات حاشدة ضد إسرائيل وحربها، وما تبعها من احتجاجات تاريخية، تجاوزت احتجاجات الطلبة ضد حرب فيتنام في العقد السابع من القرن الماضي، في الجامعات ورد إدارات الجامعات وتفاعل لجان الكونغرس مع ذلك، وما تلاه من نقاش مستفيض حول كل ذلك وتداعياته ومعانيه، وطبعا هنالك تغييرات في مواقف جزء من الدول والقيادات بشأن الحرب، ورد على جزء من تطوراتها، أكثرها لفتا للانتباه التغيير مؤخرا في لهجة الرئيس الأميركي فيما يتعلق بدخول الجيش الإسرائيلي إلى رفح والذي يأتي كذلك في سياق تخوف الرئيس الأميركي من إمكانية أن يطاح به من كرسي الرئاسة بسبب آثار حرب غزة وخصوصا تصويت العرب في انتخابات الرئاسة الأميركية في نوفمبر/ تشرين الثاني القادم، لكم أن تتخيلوا أن تطيح تداعيات حرب غزة برئيس أميركي وتأتي بغيره وتداعيات ذلك أميركيا داخليا ودوليا، وخصوصا في منطقتنا.

من المؤكد أن الجهود الحالية التي تخوض في محاولة فهم الحدث في غزة وأهواله هي مهمة جدا، لكنها بالتأكيد لا تستطيع الإحاطة بكل جوانب الحدث، وقد تكون في غالبيتها متأثرة بتطورات الحرب من جراء هجوم “حماس” في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وكذلك من تداعيات الهجوم الإسرائيلي الكاسح ضد غزة وأهلها، وجرائمها المتواصلة والمتراكمة في غزة وفي عموم فلسطين.

ولذلك فإننا كعرب وكفلسطينيين، كما باقي المؤسسات العلمية ومجموعات التفكير العلمية الجادة وغير المتحيزة للأجندة الإسرائيلية والصهيونية بحاجة ماسة للبدء في بلورة تصورات جدية واستراتيجية لمتابعة ما يجري، وفهم تداعياته الآنية والاستراتيجية، وكما في الماضي فإن المعرفة وفهم الحقيقة من أهم الأهداف، إلا أن مجابهة الأجندة الإسرائيلية والغربية المتحيزة التي تتغذى من مئات وآلاف المؤسسات العلمية والباحثين، هي كذلك في مرمى أهداف الجهد الذي أدعو إليه، وأي مسار سياسي أو ثقافي مجابه لآثار الحرب في غزة مستقبلا سوف يتأثر بما نستطيع إنتاجه من معرفة حول الحدث الحالي وتداعياته. بمعنى أن الأهداف السياسية والثقافية وتجيير ما يرصد ويبحث جديا هو مهم وأساسي في أية محاولة جدية في المستقبل لإعادة الاعتبار لحقوق الفلسطينيين والوصول إلى عدالة نسبية في فلسطين، مهما كانت تفاصيل الوضع السياسي الذي سوف ينتج عن ذلك.

من المهم هنا الإشارة إلى أن مؤسسات ومراكز بحثية إسرائيلية شرعت فعلا في جهد علمي استراتيجي لفهم ما يحصل واستخلاص الدروس للاستفادة منها علميا وسياسيا في سياق المواجهة المفتوحة مع الفلسطينيين وتداعيات ذلك عربيا وإسلاميا ودوليا، وبدأت الجهود الأكاديمية، المتحيزة وغير المستقيمة علميا في غالبيتها برأيي، في التزايد والتكثيف لأجل ملاحقة الأحداث ومحاولة فهمها. وعموما كانت مثل هذه الجهود في السابق مهمة جدا في تثبيت الموقف الإسرائيلي وتبرير جرائم إسرائيل وموضعتها كضحية الاعتداء العربي والفلسطيني، في الرأي العام عموما ولدى النخب الغربية بشكل خاص، قبل النكبة الأولى وبعدها، وصولا إلى حرب غزة وجرائم إسرائيل.

والانتباه لهذا الأمر مهم لأجل المبادرة جديا إلى وضع جهد استراتيجي علمي وبحثي وإعلامي لوضع الأمور في غزة وتداعياتها في سياقها الحقيقي، ليكون هذا الجهد في خدمة الحقيقة وأداة في معركة متواصلة ومستمرة، وربما لعقود طويلة أمامنا، حتى الوصول إلى العدالة في فلسطين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى