أسعد غانم: ما الاستنتاجات من الحرب على غزة وماذا نفعل بها؟
أسعد غانم 9-3-2024: ما الاستنتاجات من الحرب على غزة وماذا نفعل بها؟
يتوجب علينا كمتابعين أو نشطاء مهتمين في الحيز العام أو كأناس عاديين نتابع الحرب على غزة، أن نسأل عن كيفية التقدم من هذه النقطة التي تتعاظم فيها المعاناة والأهوال في غزة تحديدا، وفي عموم الوطن الفلسطيني عموما. فبعد أكثر من خمسة أشهر على بدء الحرب ومشاركتنا جميعا في “سيمنار مفتوح” تبثه تباعا عشرات القنوات التلفزيونية والراديوهات ومئات أو أكثر من منصات التواصل الاجتماعي، وتشارك فيه عشرات المجلات والجرائد، ويتضمن عشرات الندوات المتخصصة بمشاركة نشطاء ومختصين في عشرات المجالات، ونلتقي خلاله يوميا بعشرات المتحدثين من خبراء أو عموم الناس الذين يقعون تحت المعاناة أو يحاولون الإدلاء برأيهم في كيفية إنهائها، وغالبيتهم يتمتعون بقدر مهم من المعرفة والخبرة الميدانية أو الإنسانية المكتسبة، فماذا أفادنا هذا “السيمنار المفتوح” في الوصول إلى خلاصات مفيدة أو صالحة للاستفادة بحيث تساهم في وقف ضيم الفلسطينيين ومعاناتهم؟
بعد كل هذه المراجعات والنقاشات والتقييمات، نستطيع الوصول إلى استنتاجات مهمة لتصوير المشهد، وقد تفيدنا في الوصول إلى توصيات تنفيذية للمستقبل، القريب والبعيد.
هجوم “حماس” نتاج للخلل الفلسطيني الداخلي، بالإضافة للممارسات الإسرائيلية
أولا، حددت “حماس” في ورقتها الرسمية “هذه روايتنا” والتي نشرتها في 21 يناير/كانون الثاني الماضي موقفها من حيثيات هجومها على غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 والحرب المفتوحة بعده. وذكرت تحديدا أن ما يقف وراء هجومها هي أربعة أسباب.
أولا، تغول الإغلاق على غزة وتفاقم منسوب معاناة أهلها.
ثانيا، الاعتداءات على الأماكن المقدسة في القدس.
ثالثا، تزايد منسوب اعتداءات المستوطنين والجيش على الفلسطينيين في الضفة والقدس.
ورابعا، الوصول إلى صفقة لتبييض السجون الإسرائيلية من الأسرى الفلسطينيين.
وبات واضحا من ورقة “حماس” ومن تصريحات قياداتها منذ بدء الحرب بأنها تعتبر أن هجوم “كتائب القسام” على غلاف غزة تخللته اعتداءات وتجاوزات ضد مدنيين إسرائيليين، مشيرة إلى أن ذلك حدث بسبب حالة الفوضى ودخول مدنيين غزيين إلى البلدات الإسرائيلية في غلاف غزة. أي ان قيادة “حماس” تقول إن العملية تخللتها تجاوزات ضد مدنيين إسرائيليين، وهذه تحديدا غير مقبولة منها.
أكثر من ذلك، هي تقول إن أهدافها محددة ولم تباشر حربا “لتحرير فلسطين” ولا تتطلع من خلال عمليتها تلك إلى فتح جبهة شاملة مع إسرائيل، وطبعا تعبر بذلك عن تقييمها بأن الموضوع لا يتعلق بحرب تحرير ولا بما نسبه بنيامين نتنياهو إلى “تطلعات حماس” بالقضاء على إسرائيل وقتل عموم الإسرائيليين، وغير ذلك من مواقف دعائية لتبرير الجرائم الإسرائيلية في غزة.
ثانيا، فلسطينيا يأتي هجوم “حماس” على خلفية تفتت الحركة الوطنية الفلسطينية وانعدام تناسق وطني واضح، بحيث إن سلطة رام الله وقيادة “منظمة التحرير الفلسطينية” دخلت في تنسيق مع الاحتلال، ومن ناحية ثانية أخذت “حماس” على عاتقها مشروع استمرار مقاومة الاحتلال ومقارعته بالوسائل والأشكال التي تراها مناسبة وبغياب تنسيق وطني حول ذلك، فيما غاب عن المشهد غالبية الفلسطينيين. هجوم “حماس” حدث فلسطيني في هذا السياق وهو نتاج للخلل الفلسطيني الداخلي– بالإضافة للممارسات الإسرائيلية التي ذكرت آنفا. ونتج عن الهجوم الإسرائيلي وضع فلسطيني بالغ التعقيد، أهم سماته تتمثل في معاناة إنسانية غير مسبوقة للغزيين تحديدا ولعموم الفلسطينيين في وطنهم التاريخي، فيما تراجع جديا أداء القيادات والنخب. فـ”حماس” و”الجهاد الإسلامي” و”فتح” وبقية الفصائل و”منظمة التحرير” وقيادة السلطة الوطنية وقيادات فلسطينيي الـ48 بأحزابهم وأطرهم القيادية وعموم المجتمع المدني الفلسطيني لم يكونوا على قدر الحدث، ولم يقوموا حتى الآن بالمطلوب لوقف المجزرة التي تنفذها إسرائيل. وهنا تحديدا من المفيد الإشارة إلى أن الفلسطينيين إذا أرادوا الاستمرار في وطنهم وتحقيق أهدافهم الوطنية– بغض النظر عن شكل ذلك- يتوجب عليهم البدء في ترميم وضعهم الجماعي وبناء أطر وقيادات فاعلة وقادرة على قيادتهم بعد الحرب.
ثالثا، إسرائيليا تمدد اليمين العنصري والفاشي خلال العقدين الأخيرين، وصولا إلى الحكومة الحالية التي يقودها غلاة المتطرفين والعنصريين الشعبويين من أمثال نتنياهو ووزير المال بتسلئيل سموتريتش ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير وعموم زملائهم في الحكومة والكنيست، بحيث تتربع الحكومة على رأس الحكومات المنتخبة الأكثر تطرفا وعنصرية وفاشية في العالم. واستغلت إسرائيل هجوم “حماس” لأجل تجميع الإسرائيليين في روح واحدة أسميها “القبيلة” التي تتطلع للانتقام من الفلسطينيين عموما والغزيين تحديدا، وخصوصا على ضوء الإنجاز العسكري لـ”حماس” في السابع من أكتوبر/تشرين الأول وهزيمة جيشها وترتيباتها الأمنية، والانتقام مما أحدثه الهجوم آنذاك من آثار صعبة على مدنيين إسرائيليين. هذه “القبيلة” المتطلعة للانتقام تجاوزت في إجراءاتها ضد المدنيين الغزيين كل جرائمها السابقة ضد الفلسطينيين، فقامت بقتل نحو ثلاثين ألف فلسطيني حتى الآن، واعتقال حوالي سبعة آلاف، وهدم البنى التحتية والمدارس والمستشفيات، وتهجير ونقل غالبية الغزيين بالقوة، وإغلاق الأبواب أمام المساعدات الإنسانية والتجويع الجماعي للغزيين واستهدافهم بشتى أنواع الأسلحة الفتاكة، وترافق ذلك مع تصعيد جدي في القمع والممارسات ضد الفلسطينيين في باقي أجزاء فلسطين التاريخية.
تجنيد “القبيلة”
ممارسات إسرائيل هذه أهلتها لاتهامها في الدعوى المرفوعة ضدها من دولة جنوب أفريقيا أمام “محكمة العدل الدولية”، بأنها ترتكب “إبادة جماعية” وتمارس أعمالا وحشية غير مسبوقة في الصراع ضد غزة وأهلها. وكل ذلك يترافق مع استمرار رفض أي حلول معقولة لقضية غزة تحديدا ولعموم القضية الفلسطينية. فاليمين الإسرائيلي الذي وصل إلى وضعية “الكتلة المسيطرة” على السياسة في إسرائيل يضع على رأس سلم أولوياته السيطرة فعليا على كل فلسطين التاريخية، وهو- في سبيل ذلك- مستعد لارتكاب فظائع بحق الفلسطينيين، ولا يكترث بالقرارات الدولية ولا بمواقف الدول، بما في ذلك الإدارة الأميركية التي تحاول أن توهم الفلسطينيين بأن حل القضية مسألة قريبة وممكنة. وهذا اليمين استطاع أن يجند “القبيلة” الإسرائيلية في سبيل الوصول إلى أهدافه، بما في ذلك العودة إلى مشروع الاستيطان في قطاع غزة، كما نجح في إلغاء أي مظهر جدي لمعارضة داخلية للحرب والجرائم المقترفة هناك، وبذلك فإننا أمام حالة تجند غير مسبوقة في إسرائيل وتتضمن تبرير القبول بأي جرائم تنفذها إسرائيل وجيشها ومستوطنيها بحق الشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده.
طبعا استثني من هذا التقييم أصواتا إسرائيلية قليلة، لكنها مهمة جدا، عارضت الحرب وجرائم إسرائيل في غزة والقدس والضفة والداخل. فهناك نشطاء اتخذوا مواقف شجاعة جدا أهمها مقالات جدعون ليفي في صحيفة “هآرتس” ومواقف المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه، ودعم عضو الكنيست عوفر كسيف عن “الجبهة الديمقراطية” لدعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل. كما ندد عشرات النشطاء في رسائل ومظاهرات بالممارسات الإسرائيلية والجرائم المقترفة بحق الفلسطينيين عموما والغزيين تحديدا.
رابعا، المستوى الدولي (بما في ذلك المستوى العربي) هنالك حالة انقسام جدي بين الحكومات وشعوبها. من جهة يتم التعبير عن مواقف الحكومات إجمالا من خلال مواقف داعمة لإسرائيل في حربها وقابلة لتبرير جرائمها ضد الفلسطينيين ومدافعة عن “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، وإجمالا متغاضية فعليا عن قتل الغزيين ومعاناتهم، لدرجة تشير إلى أن إسرائيل أصبحت محصنة دوليا ويتوفر لها غطاء دبلوماسي ودعم فعلي في حربها ضد الغزيين. طبعا لا ينفي ذلك عدم وجود مواقف متوازنة أكثر ورافضة للممارسات الإسرائيلية وداعية لتوقف الحرب والمجزرة، إلا أنها أصوات قليلة وليست قادرة حتى الآن على فرض أجندتها، أو حتى جزء منها.
بالإضافة إلى ذلك، ففي عموم العالم الثالث، خسر الفلسطينيون تقريبا كل حلفائهم الرسميين. فالهند والصين وعموم أفريقيا- عدا جنوب أفريقيا- وأوروبا وتركيا ودول عربية، كلها قالت كلاما عاما ضد الممارسات الإسرائيلية لكنها استمرت في التعامل معها وكأنها دولة طبيعية وليست دولة مارقة تتحدى القوانين والأعراف الدولية وتمارس جرائمها أمام العالم.
من ناحية ثانية، أحدثت حرب غزة تغييرات جدية لصالح دعم الفلسطينيين ونضالهم ضد الاحتلال والأبرتهايد. فهنالك موقف شعبي واسع وعريض يندد بالجرائم الإسرائيلية وبالمجزرة المستمرة ضد الفلسطينيين، وقد عُبّر عن ذلك في عشرات المظاهرات المناوئة للحرب والداعية إلى توقفها، والداعمة كذلك لمقاطعة إسرائيل وبضائعها ونشاطاتها، كما في مواقف شخصيات ونشطاء بارزين ضد الحرب وضد الجرائم الإسرائيلية، كل ذلك شكل ويشكل ضغطا مهما على الحكومات لاتخاذ مواقف أكثر توازنا وداعمة لأجل وقف معاناة الفلسطينيين. هنا تبرز كذلك حركة الاحتجاج ضد الحكومات الداعمة لإسرائيل في أوروبا، كما في الولايات المتحدة تحديدا حيث تهدد إعادة انتخاب الرئيس الأميركي جو بايدن لولاية رئاسية ثانية في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. وهذا يشير إلى أن حرب غزة، والاحتجاج عليها تحديدا، قد تؤدي إلى ارتجاجات دولية أهمها حسم معركة الرئاسة في الولايات المتحدة، وبالتالي تحول معاناة غزة إلى أداة مركزية لتغييرات كونية.
خامسا، المداولات في لاهاي في دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بتهمة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية هي تطور نوعي في تصعيد جدي ضد إسرائيل وجرائمها. فإسرائيل التي استحوذت على خطاب الضحية بشكل متفرد في سياق الهولوكوست النازي ضد يهود أوروبا، هي نفسها متهمة الآن في أعلى منصة قضائية دولية بالتهمة نفسها التي وجهت للنازية. والمتفحص لهذه الدعوى ولنص القرار الأولي للمحكمة الدولية ولشكل إدانتها (الجزئية حاليا) يستطيع أن يفهم أن إسرائيل في ورطة جدية لن تستطيع الإفلات منها بسهولة. وطبعا هناك أهمية لاستكمال ما أنجز حتى الآن لفضح إسرائيل وممارساتها، وكذلك الاستمرار في الدعوى وتقديم دعاوى أخرى لـ”محكمة الجنايات الدولية” ولمحاكم في دول يزورها إسرائيليون. ومن المهم السعي إلى إزالة الحصانة ومحاصرة من شارك ويشارك منهم في الحرب على غزة. هنا طبعا من المهم تجنيد مؤسسات المجتمع المدني وحركات التضامن مع الفلسطينيين، كما حكومات مساندة لهم على رأسها حكومة جنوب أفريقيا، ومؤسسات دولية وعربية لأجل استمرار محاصرة إسرائيل وفضح جرائمها.
سادسا، في رأيي أن من أهم تجليات الحرب ضعف وترهل الوضع الفلسطيني، وانعدام أي نشاط وطني جدي لوقف الحرب، فإذا استثنينا نشطاء الفصائل وتصديهم للممارسات الإسرائيلية، فإننا أمام غياب فلسطيني فاعل وعلى كل المستويات. وطبعا هذا الترهل والضعف الوطني لم يكن وليد الحرب وتداعياتها، بل هو وضع فلسطيني مستمر منذ سنوات، وتشكل من خلال محطات تاريخية عدة، وقد اتخذ أشكالا مختلفة من التجليات: أولها، انعدام التنظيم الوطني الفلسطيني الفاعل والممثل لعموم الفلسطينيين. ثانيا، انعدام رؤية واضحة ومقبولة لعموم الفلسطينيين حول كيفية التقدم كتصور مهم لهم ولحلفائهم، وكي يوضع على الطاولة مقابل محاولات إسرائيل لـ”محو الفلسطينيين” وتغييبهم، مع السيطرة الكاملة على وطنهم. وثالثا، يترافق مع كل ذلك ضعف أدائي وانعدام الشفافية وتفشي الفساد في المؤسسات الفلسطينية، أي تغيب موقف وأداء أخلاقي ناظم يستطيع تجميع الفلسطينيين وتشكيل بوصلة أخلاقية وسياسية لنضالهم ضد إسرائيل والأبرتهايد والاستيطان المتمدد يوميا في فلسطين التاريخية.
أستطيع الاستمرار في تعداد الدروس والاستنتاجات الممكنة من حرب غزة حتى الآن. ومن المؤكد أن استنتاجات أخرى قد تضاف مع استمرار الاعتداء الإسرائيلي والجرائم بحق المدنيين الغزيين. ولكن الأهم من ذلك هو المبادرة إلى فعل شيء أو جملة من النشاطات التي تؤدي إلى وقف الحرب على غزة ووقف النزيف الفلسطيني، والاستمرار في ملاحقة إسرائيل على جرائمها، والتفكير في المواقف الدولية، الرسمية والشعبية، والاستفادة منها مستقبلا، والتفكير في كيفية التواصل مع أصوات إسرائيلية تعارض الحرب والجرائم المرتكبة ضد الفلسطينيين. كل هذا وقضايا أخرى بحاجة لتفكير جدي وسريع والبدء في تطوير تصورات عينية حتى لا تفلت إسرائيل بجرائمها، وحتى نستطيع كنشطاء ومواطنين عاديين المساهمة في منع تكرار الجرائم الإسرائيلية ضد الغزيين.
كل ما يمكن فعله ضد إسرائيل وجرائمها لا يكون سوى بوجود موقف فلسطيني وطني واضح ومبادر مع شرعية فلسطينية حقيقية ورؤية واحدة واضحة للمستقبل وللطريق الذي سيتم سلوكه، وبذلك فإن أهم ما يمكن فعله هو السعي إلى تغيير جذري في الأداء الفلسطيني، الرسمي والشعبي، وذلك يتطلب تغييرا جذريا في طرق النضال ضد إسرائيل وتغولها، ويتطلب تطوير رؤى مستقبلية للصراع تعتمد على أسس نستطيع تسويقها كفلسطينيين داخليا وإسرائيليا ودوليا للمتضامنين معنا والداعمين للحق الفلسطيني، والأهم هو إعادة الاعتبار للحركة الوطنية الفلسطينية، فشكلها وأداؤها الحالي لا يليق بالشعب الفلسطيني وتضحياته ونضالاته وإنجازاته الإنسانية، في هذا نجد الفلسطينيين على مفترق طرق، فإما الاندثار نهائيا كجماعة وطنية واحدة وإما الانطلاق نحو التصرف كشعب متماسك تقوده قيادات تليق به وتستطيع صياغة مستقبل أو على الأقل طريق واضح نحو المستقبل. إن السعي إلى أن تكون “منظمة التحرير”، قولا وفعلا، ممثلة أمينة لتطلعات عموم الفلسطينيين ولنضالاتهم هو مفتاح مركزي، لكن ذلك يجب أن يكون جزءا من تغييرات جذرية في شكل تمثيل الفلسطينيين وأداءهم الوطني، وهذا هو جوهر التحدي المركزي الذي يقف واضحا أمام عموم الفلسطينيين ومن يدعم نضالهم.