#شؤون إسرائيلية

“أرشيف الدّولة” في إسرائيل : “الصهيونية تحمي مواطنيها من جرائمها”!

أنس إبراهيم – 8/2/2021

لا يزال أرشيف الدّولة في إسرائيل، إضافة إلى أرشيفيّ وزارة الدّفاع والجيش الإسرائيليّ، في حالة حجبٍ مستمرّة منذُ إنشاء الدّولة في العام 1948 وحتّى اليوم. تختلفُ ممارسات الحجبُ ومنعُ الوصول، إلّا أنّ المنع يظلّ هو الثابت المتغيُّر خاصّة فيما يتعلّق بسياسات الدّولة تجاه مواطنيها العرب. فعلى الرغم من أن قانون الأرشيفات في إسرائيل يحدد مبدأ مفاده أنّ “كلّ شخص مخوّل بالاطّلاع على المادّة الأرشيفيّة المودعة في أرشيف الدّولة”، فإنّ المعطيات تظهر أنّ الجمهور يمنع من حق الوصول إلى الغالبيّة الساحقة من مواد الأرشيفات الحكوميّة الكُبرى، خصوصاً أرشيف الدّولة، الجيش ووزارة الدفاع. ويُشيرُ تقرير وضعه مدير

“أرشيف الدولة” في إسرائيل، يعكوف لازوفيك، في كانون الثاني 2018، إلى أنّ هناك الكثير من العوائق التي تمسّ بسير العمل السليم في الأرشيف، وهي مرتبطة بمناهج/ سياسات كشف المواد وإتاحتها أمام الجمهور للاطّلاع. كما يؤكّد أنّ إسرائيل “لا تعالج المواد الأرشيفيّة الخاصة بها كما يُتوقّع من دولة ديمقراطيّة، فالغالبيّة الساحقة من المواد الأرشيفيّة مغلقة ولم/ لن يتمّ فتحها أمام الجمهور أبداً. أمّا المواد القليلة التي تعرضُ فستكون ضمن تقييدات غير معقولة حيثُ لا توجد رقابة على إجراء الكشف إضافة إلى انعدام الشفافيّة”.

الدّولة التي “تحمِي” مواطِنيها من جرائمها

تصبحُ الحاجة إلى السرّية وممارسات الحجب والمنع حاجة تلقائيّة وإجراء بديهيّا في الدّولة الحديثة، كما يقول الفيلسوف الفرنسي بيار بورديو. وفي حالة الاستعمار الصهيونيّ، تُصبِحُ الحاجة إلى السرّية والمنع أشدُّ إلحاحاً مما هي عليه في أيّ دولة أخرى؛ ذلك أنّ عنف أجهزة الدّولة وسياساتهاالعنصريّة تجاه مواطنيها العرب يتّسم بالمنهجيّة وممأسسٌ في الدّولة نفسِها بحيثُ يتطلَّبُ إجراءات وقائيّة [المنع، الحجب، السرّية] إلى حدّ جعلها إجراءاتٍ بديهيّة ترافق كلّ أفعال الدّولة وأجهزتها.

ويعتقدُ الباحثُ الإسرائيليّ آدم راز بأنّ أصول الوحشيّة القبيحة المتمظهرة في حوادث إطلاق النّار عمداً [الإعدام الفوريّ] للفلسطينيين المدنيين، تعودُ إلى الممارسات الصهيونيّة العسكريّة إبّان الحكم العسكريّ الذي فرضته إسرائيل بعد نكبة 1948 على الفلسطينيين الذين لم يُهاجروا من فلسطين المحتلّة وظلُّوا في بلداتهم ومدنهم الأصليّة. وكبقيّة الممارسات الصهيونيّة، فقد خضعت تلك الممارسات لرقابة مشدّدة تحمِي الدّولة من خلالها “مواطنيها/ مستوطنيها البيض” من جرائمها السّوداء لتحجب حقيقة أنّ اليهود المهاجرين إلى إسرائيل من الوحشيّة النازية آنذاك كانوا يعيشون في دولة تؤسس لنظامٍ موازٍ يفرِضُ على الفلسطينيين العيش في غيتوات ويُخضعهم لممارسات قمعيّة وحشيّة منظّمة غايتُها التأكيد على التفوُّق العرقيّ للإسرائيليّ ووضع الفلسطينيين في وضعيّة “دون البشر”.

لأكثر من ثمانية عشر عاماً عاش قُرابة 85 بالمئة من الفلسطينيين في إسرائيل (1948-1966)، في ظلّ نظامٍ قمعيّ عسكري. من بين مُصطلحاتٍ كثيرة، يمكنُ وصفُ هذا النّظام بـ”نظام التّصاريح العسكريّة”؛ فكلّ حركةٍ كانت ممنوعةٍ إلّا بتصريحٍ عسكريّ، الحركة داخل وخارج القُرى، حالة حظر التجوال الدائمة، منعُ تغيير السكن، حظر النشاطات السياسيّة والمدنيّة، ومنعهم من الوصول بالمُطلق إلى قراهم ومدنهم الأصليّة التي كانوا يعيشون فيها قبل العام 1948. ويعتقدُ الباحث راز أنّه على الرّغم من كون هذا الجزء من ماضي إسرائيل قد تمَّ كَبتهُ في الذّاكرة الجمعيّة اليهوديّة في إسرائيل، إلّا أنّه يُشكّل جزءاً أصيلاً من الهويّة والذاكرة الجمعيّة للفلسطينين في إسرائيل. وكذلك يمكنُ الاعتقاد بأنّه يشكِّل الحقبة الأكثر استِرجاعاً من قبل أجيال المستوطنين المتديّنين والقوميين الذين أخذوا على عاتقهم “استكمال الحلم الاستيطاني الصهيوني” في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة متّخذين من تلك الحقبة نموذجاً ومصدراً للممارسات القمعيّة والتحقيريّة للفلسطينيين.

يكشِفُ راز من خلال بعض الوثائق التي رُفعِت عنها السرّية مؤخّراً، أنّ العاملين في الحكم العسكريّ في المثلّث والجليل، استخدموا “أساليب ضغط غير قانونيّة خلال الاستجوابات والتحقيق مثل استخدام الكلاب، التهديدات وغيرها من الوسائل كما جاء في رسالة مستشار بن غوريون لشؤون العرب، يهوشوع بالمون”. بعد عامٍ على تلك الرسالة، شرحَ باروخ ياكوتييل، نائبُ بالمون، لمجلس الحكومة أنّ الحالة في المناطق العربيّة تتطلّبُ أحياناً “يداً سلطويّة باطِشة”، ورغم أنّه لم يتعمّق في التفاصيل، إلّا أنّ هناك شهادات تُبيِّن مدى الوحشيّة والقمع الذي عنتهُ كلماتُ ياكوتييل.

إضافة إلى هذه السّياسة، فقد كان معروفاً أنّ ممثِّلي الحكم العسكريّ هدَّدوا المواطنين [العرب] لمنعهم من التقدّم بشكاوى من الأساليب العسكريّة القمعيّة. تكشِفُ إحدى الوثائق أنّ حاكماً عسكريّاً [وكان هناك ثلاثة حُكّام عسكريين، حاكم منطقة النقب، حاكم المثلّث وحاكم الشمال]، كان يُطالبُ روّاد بعض المقاهي بالوقوف احتراماً عند دخول المقهى وكان يهدِّدُ أيّ شخصٍ يَعصى أوامره، وكان الجنود يُسلّون أنفسهم بإذلال العرب بالانحناء عليهم ووضع بنادقهم على أكتافهم وتخويفهم، وبعضهُم كان يمنع المسلمين من أداء صلواتهم. في حالاتٍ أخرى، كانت هناك مضايقة للمزارعين وتدمير ممتلكاتهم، إذلال يوميّ واستخدام للغة قذرة، تعنيف للأطفال، وتهديد ممثلّي الحكم العسكريّ للفلسطينيين إن لم يصوّتوا لمرشّحي الحكومة المفضّلين في الانتخابات.

ورغم وجود بعض الشهادات لحاكم عسكريّ ينفي هذه الاتّهامات، إلّا أنّ شهادة أخرى لحاكم المثلّث، زَالمان مارت، في العام 1957 والمتعلّقة بمجزرة كفر قاسم التي قتل خلالها 49 فلسطينيا كانوا عائدين إلى قريتهم أثناء حظر التجوال، تُؤكِّدُ هذه الممارسات وما هو أبعَد منها. وفقاً لمارت، لم يكن هناك إلزامٌ بقتل من يخرق حظر التجوال، ولكن كان هناك بروتوكول عقابيّ لمن يخرق الحظر: “بإمكانك صفعه، ضربه، ضرب ساقيه بالبندقيّة وبإمكانك الصراخ عليه”، ولكنّ الضابط الإسرائيليّ شِدْمي اختار قتل 49 فلسطينياً مرّة واحدة، وتكشِفُ بعض الوثائق أنّ المجزرة لم تكن عملاً فردياً بل كانت جزءاً من خطّة سرّية لتهجير الفلسطينيين وسكّان المثلث إلى الأردن.

تُظهِرُ شهادات ضبّاط آخرين في الجيش الإسرائيليّ تتعلّق بمجزرة كفر قاسم مدى عمق كراهية العرب/ الفلسطينيين، ولو لم تكن المجزرة فعلاً فردياً حقاً، فذلك لا يُغيِّرُ من حقيقة استعداد عديد الجنود الإسرائيليين آنذاك والآن لارتكابها مرّة أخرى وأخرى. يُجيبُ ضابط إسرائيلي على سؤال ما إن كان يشعُرُ بأنّ العرب هم أعداء دولة إسرائيل، بالقول ببساطة: “نعم”، وعلى سؤال ما إن كان مستعداً لقتل أيّ منهم، حتّى لو كان طفلاً أو امرأة، يجيب بالقول: “نعم”. ويقول ضابط آخر إنّه لو أمر بإطلاق النار على حافلة مليئة بالنّساء العرب، لفعل دون تردّد، ويقول آخر: “دائماً ما أخبِرتُ بأنّ كلّ عربيّ هو عدوّ للدولة وطابور خامس”. لم يبدِ الضبّاط في شهاداتهم أيّ نوعٍ من أنواع الشّفقة عند سؤالهم عن استعدادهم لإطلاق النّار على أفرادٍ عزّل، وردّاً على سؤال ما إن كان سيُطلِقُ النار على رضيعٍ “خرق حظر التجوال”، أجاب جنديّ إسرائيلي: “ربّما أبدو قاسياً، ولكنّي سأطلق النار عليه. سأكون ملزماً بذلك”!

تُسلّطُ شهادات أخرى لفلسطينيين من قرية الجش في الجليل تعود إلى العام 1950، الضّوء على ما حاولت الحكومة العسكريّة إخفاءه من ممارساتها القمعيّة. يروي أحد أفراد عائلة إمطانس كيف اقتحمت قوة عسكريّة منزله ليلاً واعتقلته بتهمة “شراء زوج أحذية مهرّب”. أخبره المحقّق أنّه سيتكلّم ولو بالقوّة، ووفقاً لشهادته: “وسط كلّ هذا، أمِرت بخلع حذائي، وخلع جواربي، وأجبرتُ على الاستلقاء على ظهري على الأرض، رفعت قدماي عن الأرض ووضعتهما على كرسيّ. في تلك اللحظة اقترب منّي جنديّان وبدآ بضربِي بخيزرانة مصنوعة من خشب النّخيل على باطن قدميّ”، وبعد ذلك رُمِي خارجاً غير قادرٍ على المشي. شهادة أخرى لأحد سكّان القرية تروي كيف اقتحمت قوّة عسكريّة منزله ليلاً وشرعت بضربه بوحشيّة. أحد الضبّاط العسكريين يقول إنّهم كانوا يريدون إعدامه وأدخلوه في العربة العسكريّة. بعد فترة قصيرة توقّفت العربة وأخرجوه وضغطوا مسدّساً على رأسه في وسط الطّريق ثمّ عادوا يضربونه مرّة أخرى قبل وضعه في حظيرة حيواناتٍ ظلّ قابعاً فيها لأسبوعين. حنّا يعقوب أيضاً خضَع لمعاملة مماثلة بعد أن أخبره الحاكم العسكريّ أنه “زبالة”، وضُرِبَ على يديه إلى أنّ نزفتا، وبعد ذلك أدخِل أحد أصدقائه إلى غرفة التحقيق وفعلوا الشّيء ذاته معه، وبعد ذلك أدخِل ثالثٌ وفعلوا الشّيء نفسه معه. وكما يُعلّقُ راز، كان ذلك مجرّد روتين يوميّ في أروقة سجون الحكم العسكريّ ومقرّاتهم العسكريّة.

من الواضح كما يعتقد راز أنّ الدّولة اتّخذت الخطوات الضّروريّة لإخفاء هذه الممارسات القمعيّة والحرص على عدم تحوّلها إلى معلوماتٍ عامّة. ففي شباط 1952، كان رئيس أركان الجيش الإسرائيليّ يغئال يادين، في قمّة الغضب بعد نشر تقرير عن طرد 13 عربياً من قراهم، ووفقاً لشهادته يقول يادين: “قد تكون تقارير من هذا النّوع مضرّة لأمن الدّولة، ولذلك يجب إيجاد منهجيّة لتأخير نشرها”!

معسكرات الاعتقال الصهيونيّة ما بعد 1948

لا تزال آلاف الوثائق الخاصّة بالفترة التي تلت انتهاء حرب العام 1948، والتي وثّقت تعامل الحكومة العسكريّة الصهيونيّة مع ما يقارب الـ160 ألف فلسطيني لم يهاجروا من حدود فلسطين المحتلّة، في حالة حجبٍ سرّية. وحتّى تلك الوثائق القليلة التي رفعت عنها السرّية مؤخراً لا تزال هناك محاولات من قبل الدّولة للتدخّل في مضمونها وفي لغتها، لمحاولة منع أيّ مصطلحات يصعُبُ استيعابها، مثل “معسكرات اعتقال”، على الوعي الجمعيّ الإسرائيليّ.

يمكن رؤية أحد الأمثلة الصّارخة لمحاولات إخفاء “اللغة البذيئة/ غير المرغوبة”، في الوثيقة التي تكشِفُ عن اجتماع عُقِدَ في كانون الأول 1948 للّجنة الوزارية الخاصّة بالممتلكات المتروكة. عُقِدَ الاجتماع لغاية تقرير “تجميع” العرب المقيمين في اللد في أحياء معيّنة، لغاية إفساح المجال للمهاجرين اليهود في المدينة. خلال الاجتماع قال مدير وزارة شؤون الأقلّيات، غاد مخنيس، إنّه “يعتقد أنّه ليس مبرّراً بعد الآن احتجاز السكّان العرب في معسكراتٍ اعتقالٍ مسيّجة”. ذلك التعليق تمّ تنقيحه مؤخراً من قبل أرشيف الدّولة، وبرأي راز فالمنطقُ وراء عمليّة التنقيح هو: أنّ مواطني إسرائيل ليس لهم الحقّ في معرفة ماضيهم.

ويكشِفُ فحصٌ دقيق للمواد التي تتعلّقُ بمصير السكّان العرب في المدن المحتلّة نمطاً مشابهاً وهو إنشاء غيتوات في تلك المدن لحصرِ العرب داخلها. ومثل مصطلح “معسكر اعتقال Concentration camp“، فمصطلح غيتو أيضاً كان يصعُبُ “بلعهُ” على حدّ تعبير راز. وتدخّل أرشيف الدّولة مرّة أخرى لتغيير المصطلح في الوثائق الأصليّة مقدّماً بديلاً أكثَر معقوليّة مثل: “نقلُ العرب إلى مناطق آمنة”، ما يعني: غيتوات.

كان النمط ذاتهُ حاضراً في كلّ حالة خاصّة بنقل العرب من مكانٍ إلى آخر. فعندما زار بن غوريون حيفا بعد أيام قليلة على احتلالها، أمر بحصر الفلسطينيين المسيحيين في وادي النسناس، والمسلمين في وادي الصليب. في ذلك الوقت كان يوسف فاشيتس، العضو في الجناح اليساري لحزب المباي والذي كان عضواً فاعلاً في القسم الذي يُعنى بشؤون العرب، حاضراً آنذاك في حيفا وكتب تقريراً عن الفوضى التي أحدثها هذا القرار: لغاية حصر العرب كلّهم في حيّ واحد، كان يجب نقلهم إلى بيوتٍ هُجِرَت مؤخراً، دون ماء ولا كهرباء. معلّقاً على هذا القرار: “هذا قرار عنصريّ وليس عسكريّا، ولا غاية له إلّا خلقُ غيتو عربي في حيفا”.

كذلك تقرّر حصرُ العرب في يافا أيضاً: “سيكون من الأفضل أن تكون هناك مناطق خاصّة بالعرب وأخرى باليهود”، كما قال الحاكم العسكريّ مئير لنيادو للجنة الخاصّة بالعرب في تمّوز 1948. احتجّ موشيه إرم، الذي ترأس آنذاك قسم إعادة التأهيل والعلاقات مع الأقلّيات في وزارة الأقلّيات الإسرائيليّة، على إعادة تجميع العرب في حيّ العجميّ والذي كان محاطاً من كلّ الجهات بالأحياء اليهوديّة. اعتقد إرم آنذاك أنّه وعلى الرغم من عدم وجود أيّ مشكلة أمنية في المدينة أو ما حولها، فالعجميّ على وشك أن يتحوّل إلى غيتو مغلق ومُسيّج بالأسلاك الشائكة وسيفصل بشكلٍ صارم ما بين الحي العربي والمناطق اليهوديّة: “من الصّعب قبول هذه الفكرة التي تثير فينا روابط مرعبة [بماضي اليهود الذين فُرِضَ عليهم العيش في غيتوات في ألمانيا النّازية والمناطق الأوروبيّة التي خضعت لسيطرتها]”.

تم في اللد أيضاً حصرُ العرب في حيٍّ وحيدٍ وُضِعَ تحت حظر التجوّل الدائم، وتظهِرُ وثيقة أرسِلَت من قبل كِبار الأهالي في مدينة الرملة إلى بن غوريون أنهم اشتكوا من “الإذلال الذي يتعرّض له كبار السنّ، الأطفال، الشباب والنّساء”، وكيف “أجبِروا على الوقوف تحت أشعة الشمس الحارقة لثماني ساعات متواصلة من دون ماء ولا طعام، ودون أيّ سببٍ عدا السُّخرية منهُم، إذلالهم والإساءة إليهم”.

بعد نصفِ عامٍ تقريباً على احتلال اللدّ، طالبت وزارة شؤون الأقلّيات السُّلطات العسكريّة بتدمير الأسلاك الشائكة التي أحاطت المنطقة التي يقطنها السكّان العرب. لم يتمكّن الفلسطينيون آنذاك من التحرّك بحريّة حتّى شهر تمّوز 1949، أي أنّهم عاشوا في تلك المنطقة خلف الأسلاك الشائكة ما يزيد عن العام بشكلٍ متواصل دون التمكّن من الحركة، الخروج أو تغيير مسكنهم أو التواصل مع عائلاتهم خارج المدينة. ورغم السماح لهم بحرية الحركة بعد رفع إجراءات الحكم العسكريّ، إلّا أنّ الأسلاك الشائكة بقيت كما هي. وتظهِرُ وثائق أرشيفيّة أخرى إجراءات مشابهة فُرِضت على المجتمعات العربيّة في مدنٍ أخرى مثل المجدل وعكا.

فُكِّكت أجهزة الحكم العسكريّ قبل سنواتٍ عديدة، ولكنّ أساليب الحكم العسكريّ، أيديولوجيّته ومنطقهُ الحاكم لا تزال حاضرة في أجهزة الأمن الإسرائيليّة بتعاملها مع المواطن الفلسطينيّ الذي يعيش في إسرائيل، ومع الفلسطينيّ الذي يخضع للاحتلال في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة. تلك الأيديولوجيا التي تتمظهر في كلّ حوادث القتل المتعمّد التي يرتكبها الجنود الإسرائيليون على الحواجز العسكريّة، وجرائم القتل وإطلاق النّار التي يرتكبها المستوطنون في الضفّة الغربيّة، وكذلك تعامل أجهزة الأمن الإسرائيليّة العدوانيّ والوحشيّ مع المواطن الفلسطينيّ الذي يعيش في إسرائيل. وكما كانت الحال قديماً، فإن ما يُميِّزُ هذه السلوكيّات هما نمطانِ ثابتان: الأوّل، غيابُ المحاسبة والمُراقبة العسكريّة أو السّياسيّة، والثاني، غياب التوثيق وآليّات الكَشفْ عن مثل هذه السلوكيّات. ذلك يشمَلُ الرقابة الداخلية في أجهزة الدّولة، وكذلك يشمل التغطية الإعلاميّة التي لا تأتي على ذِكر مثل هذه الممارسات القمعيّة الوحشيّة، بينما لا يزال معظم المجتمع الإسرائيليّ، بالرغم من حرص الحكومة على إبقائه بمنأى عن الوعي بمثل هذه الممارسات، كما يؤكد راز، يتّجه ليكون حاضِنة داعمة ومؤيّدة للممارسات العسكريّة الإجراميّة الصهيونيّة بحقّ الفلسطينيين، سواء في إسرائيل أو في الضفّة الغربيّة.

مصادر:

How Israel Tormented Arabs in Its First Decades – and Tried to Cover it Up, Adam Raz, Haaretz:
https://www.haaretz.com/israel-news/.premium.HIGHLIGHT.MAGAZINE-how-israel-tormented-arabs-in-its-first-decades-and-tried-to-cover-it-up-1.9433728
When Israel Placed Arabs in Ghettos Fenced by Barbed Wire, Adam Raz, Haaretz:
https://www.haaretz.com/israel-news/.premium-when-israel-placed-arabs-in-ghettos-fenced-by-barbed-wire-1.8877340
هشام نفاع، محاكمة مستمرّة بمطلب كشف المحجوب عن مجزرة كفر قاسم وخطة الترانسفير السرية المرتبطة بها، المشهد الإسرائيلي، 16 تشرين الأول 2018.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى