ترجمات أجنبية

أحوال تركية – الانسحاب الأميركي يرسم جغرافيا سياسية جديدة في الشرق الأوسط

تقرير عن أحوال تركية –   19/9/2020

واشنطن- لا شك أن العامل الرئيسي الأكثر تفسيرا للجغرافيا السياسية الناشئة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط هو توقع انسحاب الولايات المتحدة منها. وبإمكان الحلفاء والأعداء، على حد سواء، فهم ما تكشفه استطلاعات الرأي الأميركية. فالأميركيون يريدون في حقيقة الأمر أن تقوم بلادهم بدور أقل في الشرق الأوسط، وقد أعربوا عن رأيهم هذا في العديد من دورات الحملات الرئاسية.

يقول وليام ويشسلر، مدير برنامج الشرق الأوسط بالمجلس الأطلسي الأميركي للأبحاث، إن الأهم من ذلك هو أن الأطراف الفاعلة في المنطقة تعاملت مع ثلاثة رؤساء أميركيين متعاقبين تخلوا عن الدور الأميركي التقليدي المتمثل في الحفاظ على الوضع القائم في الشرق الأوسط، وفعل كل منهم ذلك بطريقة مختلفة. ويرى ويشسلر أن مواقيت الانتخابات الأميركية، وليس الاستراتيجية، هي الدافع وراء القرارات الخاصة بتخفيض عدد القوات الأميركية في العراق وأفغانستان.

ويضيف ويشسلر، الذي كان نائبا سابقا لمساعد وزير الدفاع الأميركي لشؤون العمليات الخاصة ومكافحة الإرهاب، في تقرير نشرته مجلة “ذا ناشيونال انتريست” الأميركية، أن الأطراف الفاعلة في الشرق الأوسط تسمع الإصرار المتكرر للرئيس دونالد ترامب على أن الولايات المتحدة ليست مهتمة بالحفاظ على التدفق الحر للطاقة، وهو أمر كان يعد من أساسيات الوجود الأميركي في المنطقة طوال أربعين عاما.

وتشهد الأطراف الفاعلة الخلل العميق في السياسة الأميركية والتصدع المتزايد في المجتمع الأميركي، وهو ما يدفعها إلى التساؤل عن المدة التي ستظل فيها الولايات المتحدة قادرة على قيادة المنطقة. ولذلك فهي تقوم بالفعل بالاستعداد لهذا المستقبل.

نتيجة لذلك، يشهد العالم ميلاد نظام جغرافي سياسي جديد في الشرق الأوسط. وهو نظام من المرجح أن يكون أقل استقرارا حتى من النظام الخطير الذي أصبحت المنطقة معتادة عليه، نظام ينطوي على عدد كبير من الأطراف الفاعلة ومستقبل أكثر غموضا. ولكن معالم هذا النظام أصبحت الآن محورا للتركيز.

يقول ويشسلر إن الصين محرك اقتصادي دائم بالنسبة لجميع دول الشرق الأوسط، وهي شريك تجاري أساسي بالنسبة لمعظمها، ومستهلك لا غنى عنه للطاقة بالنسبة لبعض هذه الدول. لكنّها لم تصبح بعد لاعبا مهما في الجغرافيا السياسية للمنطقة. ومن المحتمل أن تتحرك في هذا الاتجاه في العقود المقبلة عندما تستخدم الصين ذات النشاط التجاري المتزايد أسطولها البحري المتنامي لحماية شريان الطاقة المهم لها.

في المقابل، هناك ثلاث دول أخرى غير عربية، هي: إيران وتركيا وروسيا، والتي تسعى بالفعل إلى ملء الفراغ الناجم عن الإحساس بالانسحاب الأميركي المرتقب. وبالنسبة لإيران، فإنها طوال العقدين الماضيين وبفضل الأخطاء الاستراتيجية الأميركية، زادت من وجودها ونفوذها في العراق، وسورية، ولبنان، واليمن، وأفغانستان. إيران تعمل إلى جانب الوكلاء الذين يعملون لصالحها وتمدهم بالأسلحة الدقيقة لاستهداف المدنيين في إسرائيل ومنطقة الخليج، كما تقوم بتنفيذ عمليات سرية لزعزعة الاستقرار في المجتمعات التي تضم مواطنين شيعة. وقد استخدمت مؤخرا القوة العسكرية المباشرة عبر الحدود وفي المياه الدولية. ويبدو أن قرار أميركا استخدام طائرة مسيرة لقتل اللواء الإيراني قاسم السليماني جعل إيران أقل استعدادا لتهديد الأميركيين علانية، على الرغم من أنها تتابع هدفها المنشود، وهو طرد الولايات المتحدة من المنطقة.

وبالنسبة لتركيا، فقد تولى الرئيس رجب طيب أردوغان منصبه وهو يتبنى أجندة إسلامية، وبصورة متزايدة يقدم تركيا على أنها القائد الطبيعي للمسلمين، وخاصة السنة في المنطقة، وبالتالي هو قائدهم. ومع تخلي تركيا عن تقاليدها العلمانية التي وضعها كمال أتاتورك، والعودة إلى ماضيها العثماني، نبذت البلاد علاقاتها السابقة مع إسرائيل، وبدلاً من ذلك اختارت الوقوف إلى جانب الإخوان المسلمين. كما تقوم تركيا بعمليات عسكرية حاسمة في سورية، والعراق، وليبيا؛ ولها قوات عسكرية متمركزة في قطر، وهي تقوم بدور نشط في اليمن، والصومال، والسودان؛ وتهدف إلى أن تصبح لاعبا أساسيا في المنافسة على موارد الطاقة في شرق البحر المتوسط. وعلى الرغم من أن تركيا ما تزال حليفا رسميا للولايات المتحدة من خلال الناتو، أدت تصرفاتها المتكررة إلى توتر العلاقات الثنائية، التي ربما وصلت إلى أدنى مستوياتها عندما قررت أنقرة شراء نظام الدفاع الجوي الروسي “إس-400”.

وبالنسبة لروسيا، فإن أهدافها لا تتوافق مع المصالح الأميركية. فقد تحالفت مع إيران لدعم النظام السوري، وتسعى إلى بيع أسلحة متقدمة في المنطقة بهدف تهديد الجيش الأميركي وتوسيع نطاق وجودها في البحر المتوسط لتهديد الناتو. ولعبت روسيا دورا دبلوماسيا؛ حيث أصبحت عاملا أساسيا بالنسبة لأي قرار يتعلق بسورية، ومن خلال ذلك عززت علاقاتها مع إسرائيل وتركيا. كما تحاول روسيا التدخل في ليبيات من دون التعرض لمخاطر كبيرة، ومقابل مردود مجز، وذلك بإرسال مرتزقة للقتال إلى جانب المتمردين هناك، بحسب ويشسلر الذي ذكر أن أحد أهم إنجازات السياسة الخارجية الأميركية خلال الربع الأخير من القرن العشرين هو إبعاد الروس عن القيام بدور شرير في الشرق الأوسط. ولكن روسيا عادت الآن.

لمواجهة هذا الصعود لنجم دول غير عربية في المنطقة، هناك تحالف جديد تشهده المنطقة تمثلت بداياته في التقاء كبار المسؤولين من الإمارات العربية المتحدة والبحرين مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في واشنطن يوم الثلاثاء في الأسبوع الماضي لتوقيع اتفاقيتين لتطبيع العلاقات. وتشعر هاتان الدولتان، إلى جانب بعض الدول الأخرى في الخليج، أنها مهددة بصورة مباشر من جانب إيران وبصورة غير مباشرة من جانب الإخوان المسلمين. وهذه الدول الخليجية تفضل الاعتماد على اتفاقياتها الثنائية مع الولايات المتحدة بالنسبة لمتطلباتها الأمنية، ولكنها تبذل ما بوسعها للتحوط في مواجهة مستقبل غامض.

ويرى ويشسلر أنه يعد ظهور هذا التحالف، من دون جدال، تطورا إيجابيا بالنسبة للولايات المتحدة، ذلك لأن هيمنة إيران، أو روسيا، أو تركيا على منطقة الشرق الأوسط لا تخدم مصالح الأمن القومي الأميركي. ويتعين على الولايات المتحدة تعزيز هذا التحالف الجديد، وإعادة تأكيد دورها الإقليمي، وتصحيح حجم تواجدها واستراتيجيتها، وتجنب التخلي عن المنطقة لصالح آخرين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى