أحمد قريع (أبو علاء) – عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية – رئيس دائرة شؤون القدس
مركز الناطور للدراسات والابحاث
طلبت مني جريدة “معاريف” الاسرائيلية أن أخاطب الرأي العام الاسرائيلي، وهي ليست المرة الاولى التي أتحدث فيها الى الاسرائيليين، سواء من خلال الأحاديث إلى الصحافة الإسرائيلية، أو من خلال اللقاءات المباشرة مع سياسيين، ومثقفين ودبلوماسيين سابقين، وجامعات ومراكز أبحاث ومنتديات فكرية، وغير ذلك من المنابر الإسرائيلية التي دُعيت إليها مراراً، لعرض وجهة النظر الفلسطينية إزاء مجريات عملية السلام التي انخرطت فيها، شخصياً، منذ نحو عقدين من الزمن.
وإنها لفرصة طيبة لكي أُركز على رؤية عامة مشتركة للأكثرية الفلسطينية لمكونات المشهد الراهن، بكل ما ينطوي عليه هذا المشهد من مصاعب، وما يعصف به من مخاطر، وما يكتنفه من حقائق وأوهام، وممكنات واستحالات، أحسب أن الوقت قد حان لتشخيصها، والتداول بها بجرأة.
ولعل ما جرى في الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل أيام قليلة، حيث تقدم الرئيس محمود عباس بطلب تمت الموافقة عليه بأكثرية ساحقة لترقية عضوية فلسطين إلى مكانة دولة مراقبة، أفضل مناسبة ممكنة لفحص مكامن كل هذا الاستعصاء المديد، وبيان خصوصية هذا النزاع الدامي المرير، الذي تتصارع فيه الإرادات والتوقعات والاستنتاجات بحدة متفاقمة، وكأن الشعبين اللذين يعيشان على أرض واحدة لا يرى الواحد منهما سوى نفسه، ولا يعير اهتماماً لمصالح ومخاوف وآمال غيره، وذلك على نحو ما عبرت عنه ردود الأفعال الفلسطينية والإسرائيلية حيال أهمية خطوة الأمم المتحدة غير المسبوقة.
وأحسب أن الحفاوة الحقيقية والابتهاج العارم، الذي استقبل به الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة وفي الشتات قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، كان يشير في جوهره العميق إلى توق فلسطيني شديد إلى السلام والاستقلال والحرية، وإلى شعور وقناعة بأهمية العمل الدبلوماسي، وإلى حسّ بالكرامة والجدارة والندية، وذلك بعد سنوات من اليأس والإحباط الذي كان يتغذى من إخفاقات عملية المفاوضات، ويتعاظم بفعل سياسات وممارسات الاحتلال والاستيطان والحصار والإفقار، وغير ذلك الكثير من الممارسات الإسرائيلية، التي كانت تغلق الأبواب كافة، وتسد كل الدروب المتاحة.
ويبدو أن ردود الأفعال الإسرائيلية المقابلة، على قرار الأمم المتحدة، بكل ما انطوت عليه من أقوال مهينة، وتهديدات انتقامية أولية، تدل دلالة قاطعة على أن إسرائيل المفتونة بميزان القوة المتفوقة، لا تحسن القراءة المتمعنة، حتى لا نقول أنها تواصل الاستهانة بالشعب الفلسطيني وبالتطورات المتراكمة على أرض واقع إقليمي ودولي لم يعد، كما كان في الماضي، يصغي لها باهتمام، ويصدق روايتها، ولا يلتفت إلى عذابات الشعب الفلسطيني ضحية احتلالها الذي بدا وكأنه احتلال بلا نهاية، رغم أننا اليوم بتنا في عصر الصورة الرقمية، المعززة لقوة الرأي العام الدولي وفعالية المنظمات الحقوقية.
والحق أن الانفعالات العاطفية وردود الفعل المختلفة بشدة بين الجانبين حول عملية التصويت الأممي على ترفيع المكانة الفلسطينية، ما هي إلا عوارض جانبية لمرض مقيم في البنية السيكولوجية العميقة لدى الطرفين المختلفين على كل شيء يتصل بالرؤية والمفاهيم والمبادئ، ناهيك عن الماضي والحاضر والمستقبل، وسائر ما يخص هذا النزاع التاريخي من إدعاءات وأوهام ومقاربات ظلت توسع الهوة، وتشعل الحرائق في الصدور وفي الشارع، وتحض كلا الجانبين على إعادة إنتاج العداء، وتعميق الكراهية، وبالتالي المراوحة داخل دائرة المنطق المغلق على نفسه، حتى لا نقول داخل اللعبة الصفرية القديمة ذاتها.
إذ في الوقت الذي رأى فيه الفلسطينيون أن التصويت الكاسح داخل الجمعية العامة للامم المتحدة، كان رد اعتبار لهم، وتعويضاً لهم عن طول تجاهل المجتمع الدولي لتطلعاتهم المشروعة، وتصحيحاً طال انتظاره للغبن التاريخي الذي لحق بهم، وتأكيداً على صحة خيارهم للعمل السياسي والدبلوماسي كأحد الخيارات الهامة، نقول أنه في الوقت ذاته، رأى كثير من الإسرائيليين في هذه العملية التصويتية اللافتة، على أنها تشدد من العزلة الدولية المتنامية ضد اسرائيل، وتسحب أكثر فأكثر من صدقية خطابهم السياسي، وتضعهم وجهاً لوجه أمام حقائق لم يرغبوا في رؤيتها من قبل.
ولو شئنا أن نختصر المشهد الذي تجلت عنه الجمعية العامة للأمم المتحدة بالأمس القريب، لأدركنا أن صورة إسرائيل القادمة إلينا من رماد المحرقة النازية، كدولة مهاجرين تقوم روايتها على إحتكار صفة الضحية الأبدية، الصورة التي تآكلت كثيراً، واختلطت ألوانها بشدة، تحت وقع مشاهد ممارساتها القمعية والعنصرية، وأساليب الغطرسة والاستعلاء، وطول احتلالها للشعب الفلسطيني في عصر ما بعد انتهاء الاستعمار، وشهيتها المفرطة إلى نهب الأرض وتوسيع الاستيطان، وانتهاكاتها الفظة لحقوق الإنسان، وافتتانها بشرعية القوة عوضاً عن قوة الشرعية.
في المقابل، تجاوز الفلسطينيون منذ عقود مضت، عقدة النكبة التي دمرت كيانهم، وبددت شعبهم، وألغت هويتهم، وعصفت بأحلامهم وآمالهم، وحولتهم إلى لاجئين محرومين، وذلك عبر كفاح مرير طويل، وصمود أسطوري يثير الإعجاب، وفهم أوسع فأوسع للضرورات والممكنات، ولعبة موازين القوة، والاختيار بين العدل والحكمة، الأمر الذي جعلهم أكثر واقعية، وحملهم على رفع غصن الزيتون إلى جانب البندقية، ومن ثم الميل إلى الحلول الوسط والاعتدال، والسلام القائم على مصالحة كبرى تطوي صفحة طويلة من سجل عذاباتهم، لتفتح صفحة أخرى واعدة لهم ولجيرانهم، بالسلام والتعايش والتعاون المشترك.
وفي غضون ذلك كله، وفيما كانت إسرائيل تستبدل صورتها القديمة كدولة تصارع من أجل البقاء في محيط عربي، وتقدم نفسها كدولة ديمقراطية وحيدة في صحراء من النظم الشمولية، وتكسب بتقدمها الاقتصادي والعلمي، وذلك لصالح صورة دولة تعتمد منطق القوة عوضاً عن قوة المنطق، وتمعن في إدامة احتلالها وفي مصادرة حقوق شعبنا الفلسطيني، نقول في غضون ذلك كله، كان الفلسطينيون يستعيدون بالمقابل حضورهم السياسي على خشبة المسرح الدولي، ويمدون أيديهم بالسلام والمصالحة التاريخية، ويقبضون على جمر معاناتهم المديدة، ويكسبون قلب المجتمع الدولي شيئاً فشيئاً.
فقد تمكن الشعب الفلسطيني، عبر كفاحه وصموده واعتداله، من بعث نفسه من العدم كطائر الفينيق، وتغيير صورته عن نفسه في مرآة ذاته كشعب أصيل عريق ليس فائضاً عن جغرافيا الشرق الأوسط، بل تقديم نفسه على أنه شعب يستحق تقرير المصير، كغيره من شعوب الكرة الأرضية، وبناء دولته الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، والاعتراف بحقوق ومخاوف غيره، والتسامح باحترام وسلام وندية.
خلاصة القول أن البيئة الإقليمية والدولية، التي منحت إسرائيل أفضليات كثيرة، وأدت إلى احتضانها بقوة، هذه البيئة قد تغيرت اليوم عما كانت عليه لصالح الفلسطينيين الذين حاولت تغييبهم، والتنكر لحقوقهم، واستمرار حكمهم بقوة احتلال غاشم.
وها نحن اليوم تحت ظلال الأمم المتحدة وفي أحضانها، نقف أمام مشهدين متعاكسين انتجهما ترفيع فلسطين إلى مكانة دولة مراقبة، الأول منهما مشهد تستهين فيه إسرائيل من مغزى هذا التطور الذي أكد أن هناك شريك فلسطيني معترف به، وتصفه على أنه قرار دولي لا يقدم ولا يؤخر في واقع قائم على الأرض بقوة الحديد والنار والاحتلال، بل وترد عليه بخطوة عقابية استهلالية قوامها بناء 3000 وحدة استيطانية في القدس ومحيطها لتغلق القدس من الشرق بالكامل وتقطع أوصال الضفة الغربية وتقتل مشروع حل الدولتين نهائياً، بينما الثاني منهما مشهد فلسطيني يفيض ثقة بالنفس والأمل والاغتباط بتحقيق هذه الخطوة التأسيسية لمرحلة أحسب أنها ستعمل على تغيير قواعد اللعبة، وتحمل إسرائيل، بعد أن تستوعب أهمية هذا القرار الدولي، على إعادة تقويم الموقف بالضرورة الموضوعية، ونبذ سياسة الفصل العنصري المستشرية، ومراجعة سياسة احتلالية استيطانية عدمية لا طائل من ورائها، مهما تعالت عن الواقع الدولي الجديد، وأنكرت أنها قد دخلت في عزلة دولية شديدة.
يبقى ضرورة القول، أن قرار الجمعية العامة للامم المتحدة هذا، لا يبعث لدينا أي وهم بأن وضعنا تحت الاحتلال قد يتغير بين عشية وضحاها، أو أن يتغير الواقع بعصا سحرية، إلا أنه يمكننا القول أيضاً، أننا قد أخذنا ما نستحق من المجتمع الدولي أخيراً، من الأمم المتحدة، التي كانت قد منحت مثله لإسرائيل قبل أكثر من 65 سنة، وأننا قد أضفنا نقطة في كأس الماء الفلسطيني الذي لم يمتلئ بعد، وقد لا يمتلئ قريباً، وأننا اليوم أكثر قدرة على تبرير خطابنا السلمي وواقعيتنا واعتدالنا أمام أنفسنا قبل غيرنا، وأن ذلك كله من شأنه أن يمنح خيار حل الدولتين أفقاً جديداً، ومنطق المفاوضات قوة دفع جديدة، وأن الضغوطات والتهديدات لن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء أبداً.
وفي الختام أقول للاسرائيليين كل الاسرائيليين من قوى سياسية ومثقفين وغيرهم أن السلام والاستقرار والازدهار لن يتحقق ولن يدوم دون السلام العادل والشامل، وذلك بتحقيق الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني وإقامة دولتهم الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس إلى جانب دولة اسرائيل، وتحقيق الأمن لجميع دول المنطقة وللاسرائيليين.
فهل يشكل قرار الجمعية العامة للامم المتحدة قوة دفع جدية لنا ولكم لاغتنام الفرصة لإحلال السلام بين شعبينا، أم أننا ما زلنا بحاجة الى المزيد من المعاناة والضحايا والقلق وعدم الاستقرار، ومزيد من الوقت للاستمتاع بالاحتلال الكريه، حتى نصحو لتغيير واقع لم يعد مقبولاً، وصنع واقع جديد يقوم على السلام ليس مستحيلاً؟؟ نرجو ذلك!!
القدس – القدس – 4/12/2012